الثورة العربية وأباطيل الجماعات الوظيفية كتاب عبد العزيز الريس نموذجا الحلقة السادسة

الثورة العربية وأباطيل الجماعات الوظيفية كتاب عبد العزيز الريس نموذجا الحلقة السادسة

 

الثورة العربية

وأباطيل الجماعات الوظيفية

كتاب عبد العزيز الريس نموذجا

بقلم: محمد بن مبارك الهاجري

(6)

شبه ابن ريس حول مسألة الخروج والرد عليها:

زعم ابن ريس أنّ مسألة الخروج على أئمة الجور وعزلهم من المسائل المجمع عليها بين الصحابة فقال: (لا يسلم بوجود خلاف بين الصحابة في حكم الخروج على الحاكم الفاسق -كما تقدم بالتفصيل – فيكون الإجماع منعقدا قبل حصول الخلاف، وهو إجماع الصحابة).([1]) وزعم بتبديع من يرى الخروج من السلف والخلف فقال: (قرّر كثير من أهل السنة في كتب العقائد الإجماع على وجوب السمع والطاعة للحاكم المسلم، وحرمة الخروج عليه ولو فسق وظلم، فدلّ هذا على أنّ المخالف في هذا هم أهل البدع والضلال).([2]) واستدل بقول: (أبو بكر بن مجاهد ونقله النووي)، وبقول النووي: (وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين).([3])

ولم يجد ابن ريس على هذه الدعوى العريضة إلا الإجماع الذي ادعاه ابن مجاهد البصري الأشعري! وابن مجاهد الطائي البصري الأشعري المتوفى سنة 370هـــ هو أول من ادعى هذا الإجماع، وقد أنكره عليه العلماء، قال ابن حزم في مراتب الإجماع: (رأيت لبعض من ينسب نفسه للإمامة والكلام في الدين، ونصب لذلك طوائفه من المسلمين فصولا ذكر فيها الإجماع، فأتى بكلام لو سكت عنه لكان أسلم له في أخراه، بل الخرس كان أسلم له، وهو ابن مجاهد البصري الطائي لا المقرئ، فإنه أتى فيما ادعى فيه الإجماع أنهم أجمعوا على أن لا يخرج على أئمة الجور، فاستعظمت ذلك ولعمري إنه عظيم أن يكون قد علم أنّ مخالف الإجماع كافر، فيلقي هذا إلى الناس وقد علم أنّ أفاضل الصحابة وبقية الناس يوم الحرّة خرجوا على يزيد بن معاوية، وأنّ ابن الزبير ومن اتبعه من خيار المسلمين خرجوا عليه أيضا رضي الله عن الخارجين عليه ولعن قتلتهم، وأنّ الحسن البصري وأكابر التابعين خرجوا على الحجاج بسيوفهم، أترى هؤلاء كفروا! بل والله من كفرهم أحق بالكفر منهم، ولعمري لو كان اختلافا يخفى لعذرناه ولكنه أمر مشهور يعرفه أكثر العوام في الأسواق والمخدرات في خدورهن لاشتهاره، فلقد يحق على المرء أن يخطم كلامه وأن يزمه إلا بعد تحقيق وميز، وأن يعلم أن الله تعالى بالمرصاد وأنّ كلامه محسوب مكتوب مسئول عنه يوم القيامة وعن كل تابع له إلى آخر من اتبعه عليه وزره).([4])

وقال القاضي عياض: (وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد في هذا الإجماع وقد ردّ عليه بعضهم هذا بقيام الحسن وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية، وبقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج مع بن الأشعث).([5])

وقال ابن الوزير اليماني: (لما ادعى أبو عبد الله بن مجاهد الإجماع على تحريم الخروج على الظلمة، ردوا ذلك عليه وقبحوه، وكان ابن حزم -على تعصبه لبني أمية- ممن رد عليه، فكيف بغيره؟).([6])

واحتج ابن ريس بالإجماع على تحريم الخروج على أئمة الجور بقول النووي الذي تابع فيه ابن مجاهد وزاد عليه فقال: (وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين).([7]) فلم يجعل النووي الإجماع على تحريم الخروج على الظلمة خاصا بأهل السنة، بل جعله إجماعا للمسلمين! وهذا خطأ بيّن! فهناك فرق إسلامية توجب الخروج أو تجيزه، ثم إن النووي نقل كلام القاضي عياض الذي ذكر فيه خلاف العلماء في القيام على المبتدع وعزل من طرأ عليه الفسق فقال: (قال القاضي: فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة، خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه، ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر، ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه، فإن تحققوا العجز لم يجب القيام، وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها ويفر بدينه قال: ولا تنعقد لفاسق ابتداء، فلو طرأ على الخليفة فسق، قال بعضهم: يجب خلعه إلا أن تترتب عليه فتنة وحرب).([8])

ثم استدل ابن ريس على إجماعه المزعوم بقول ابن تيمية: (استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة؛ للأحاديث الصحيحة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الائمة وترك قتالهم)، واستدل أيضا بقول الحافظ ابن حجر (الخروج بالسيف على أئمة الجور وهذا مذهب للسلف قديم لكن أستقر الأمر على ترك ذلك).([9])

وهذا الاستدلال بكلام ابن تيمية وابن حجر لا يصلح لدعواه، فابن ريس يدعي إجماع الصحابة، وهؤلاء العلماء ينصّون على أنّ رأي أهل السنة استقر بعد عصر الصحابة والتابعين، وأنّ الخروج مذهب قديم للسلف، كما قال ابن حجر في الخروج أنه (مذهب للسلف قديم).([10]) وقد ذكر ابن حجر في نوضع آخر خروج أهل الحق من الصحابة والتابعين مثل: (الحسين بن علي ثم لأهل المدينة في الحرّة ثم لعبد الله بن الزبير ثم للقراء الذين خرجوا على الحجاج في قصة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث).([11])

ولم يستدرك ابن تيمية في كتابه (نقد الإجماع) على ابن حزم في تعقيبه وتشنيعه على ابن مجاهد، ولم ينقل ابن تيمية في كتبه إجماعا عند كلامه على مسألة الخروج على أئمة الجور كما يدعي ابن ريس، ولم يعدّ هذه المسألة من أصول أهل السنة والجماعة المتفق عليه في كتابه العقيدة الواسطية، بخلاف ما زعم ابن ريس؛ وكلمة (استقر) لا تعني الإجماع ولا يفهم منها ذلك بخلاف ما يحاول ابن ريس أن ينسبه لهم، وإنما هو نقل لحال الفقهاء والمرحلة وما استقروا عليه بعد خروج القراء على الحجاج؛ ولذا نقل ابن حجر الخلاف في هذه المسألة، فقال: (ونقل بن التين عن الداودي قال الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب وإلا فالواجب الصبر وعن بعضهم لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء فإن أحدث جورا بعد أن كان عدلا فاختلفوا في جواز الخروج عليه والصحيح المنع إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه).([12])

ونقل أيضا ابن ريس كلاما لابن حجر مستدلا به على الإجماع بحرمة الخروج على أئمة الجور فقال: (وقال ابن حجر: قال ابن بطال في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء وحجتهم هذا الخبر وغيره مما يساعده ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها). ثم قال الريس: (الحافظ ابن حجر، نقل الإجماع الذي حكاه ابن بطال، وأقرّه عليه).([13]) وابن ريس هنا حاطب ليل؛ فالإجماع الذي نقله ابن بطال هو في طاعة الإمام المتغلب إذا استقر له الأمر، أو من طرأ عليه جور وظلم والأمة تتربص به، فإنه والحال هذه يطاع في المشروع كالجهاد والغزو والصلاة خلفه، أما في غير المشروع كالقتال عنه، فإنه لا يطاع في ذلك لأنّ هذا لا يكون إلا للإمام العدل، كما قال ابن بطال نفسه: (تأويل "يقاتل من ورائه" عند العلماء على الخصوص وهو في الإمام العدل خاصة، فمن خرج عليه وجب على جميع المسلمين قتاله مع الإمام العدل؛ نصرة له إلا أن يرى الإمام أن يفعل ما فعل عثمان فطاعة الإمام واجبة).([14]) أما أئمة الجور فيطاعون في ما هو من طاعة الله، وهنا نقل ابن بطل الإجماع على وجوب طاعة الإمام فيما هو من طاعة الله، كما نقله في موضع آخر في حكم أخذ الخوارج للزكاة فقال: (وأهل السنة مجمعون على أن المتغلب يقوم مقام الإمام العدل في إقامة الحدود وجهاد العدو، وإقامة الجمعات والأعياد وإنكاح من لا ولي لها، فكذلك الخوارج، لأنهم من أهل القبلة وشهادة التوحيد).([15])

والصحيح أنّ هذه المسألة ليست من المسائل الإجماعية، فقد مرّ معنا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من خلاف في هذه المسألة وهي طاعة أئمة الجور، ورجّح أنه يطاع فيما يعلم أنه طاعة لله، قال ابن تيمية: (الناس قد تنازعوا في ولي الأمر([16]) الفاسق والجاهل: هل يطاع فيما يأمر به من طاعة الله، وينفَّد حكمه وقسمه إذا وافق العدل؟ أو لا يطاع في شيء، ولا ينفذ شيء من حكمه وقسمه؟ أو يفرَّق في ذلك بين الإمام الأعظم وبين القاضي ونحوه من الفروع؟ على ثلاثة أقوال، أضعفها عند أهل السنة هو رد جميع أمره وحكمه وقسمه، وأصحها عند أهل الحديث وأئمة الفقهاء هو القول الأول، وهو أن يطاع في طاعة الله مطلقا وينفذ حكمه وقسمه إذا كان فعله عدلاً مطلقًا).([17]) وقال: (والإمام العدل تجب طاعته فيما لم يعلم أنه معصية وغير العدل تجب طاعته فيما علم أنه طاعة كالجهاد).([18])

فلم يرد ابن بطال الإجماع على حرمة الخروج كما هو ظاهر عبارته حيث قال: (الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار) وقال: (وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء) فقوله خير من الخروج عليه فيه إشارة إلى أنها مسألة اجتهادية وليست قطعية، وقد ردّ العلامة ابن الوزير اليماني على من يحتج بمثل ما نقله ابن ريس عن ابن بطال فقال: (والعجب أن السيد ادعى على ابن بطال أنه نص على ما ادعاه، ثم أورد كلام ابن بطال وهو يشهد بتكذيب السيد، فإنّ ابن بطال روى عن الفقهاء أنهم اشترطوا في طاعة المتغلب إقامة الجهاد والجمعات والأعياد، وإنصاف المظلوم غالبا، ومع هذه الشروط، فما قال ابن بطال عن الفقهاء: إن طاعته واجبة، ولا إنّ الخروج عليه حرام، بل قال عنهم: إنه متى كان كذلك، فطاعته خير من الخروج عليه، لما فيها من حقن الدماء وتسكين الدهماء).([19])

وأما مذهب الصحابة والتابعين الذين يرون الخروج، فإنّ أقوالهم ومذاهبهم باقية ولا تموت بموتهم، وخاصة إن صارت هذه الأقوال التي من بعدهم وتخالف أقوالهم من أصول العقائد التي يضلل بها المخالف كما يدعي ابن ريس.

ثم إن كان الاستقرار على ترك أمر ما يصبح إجماعا وحجة، فسيدخل في ذلك أيضا الإنكار باللسان على أئمة الجور، فتراجع الإنكار بالسيف تبعه تراجع الإنكار باللسان، وفي هذا يقول علي بن أبي طالب: (أول ما تغلبون عليه من دينكم الجهاد بأيديكم ثم الجهاد بألسنتكم ثم الجهاد بقلوبكم فمن لم يعرف قلبه المعروف وينكر قلبه المنكر نكس فجعل أعلاه أسفله).([20])

فهذه من الأمور التي استقر عليها الكثير لاسيما بعد الانكسارات التي تعرض لها من خرج على أئمة الجور والظلمة من الفقهاء والقيادات، وقد ظهرت مذاهب على هذا الرأي كمذهب العثمانية ([21]) بالبصرة والتي ترى الكف وتقول: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل! ([22])

 فلا يكاد يوجد من ينكر بلسانه، ومن يفعل ذلك عدّوه من المجانين! قال الحسن البصري لما مات الحجاج: (اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته- وفي رواية شينه- فإنه أتانا أخيفش أعيمش، يمد بيد قصيرة البنان، والله ما عرق فيها غبار في سبيل الله، يرجل جمته ويخطر في مشيته، ويصعد المنبر فيهدر حتى تفوته الصلاة. لا من الله يتقي، ولا من الناس يستحي، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل: الصلاة أيها الرجل. ثم يقول الحسن: هيهات! حال دون ذلك السيف والسوط).([23]) ومما ورد في ذلك ما رواه ابن أبي الدنيا: ( عن المعلى بن زياد قال: لما ولي يزيد بن المهلب خشيت أن أؤخذ فأجعل عريفا، فأتيت الحسن([24]) في أهله، وخادم يقال له برزة يناوله ثيابه، فقلت: يا أبا سعيد  كيف بهذه الآية في كتاب الله عز وجل؟ قال: أية آية؟ قال: قلت: قول الله عز وجل: {وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون}،  يا أبا سعيد، فسخط الله على هؤلاء بقولهم الإثم وأكلهم السحت، وذم هؤلاء حيث لم ينهوا، فقال الحسن: يا عبد الله، إنّ القوم عرضوا السيف فحال السيف دون الكلام، قلت: يا أبا سعيد، هل تعرف لمتكلم فضلا؟ قال: ما أعرفه ثم حدثنا الحسن، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله : (ألا لا يمنعن أحدكم هيبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق، أن يقال بحق أو يذكر بعظيم) ثم حدثنا حديثا آخر، فقال: قال رسول الله : (ليس للمؤمن أن يذل نفسه)، قيل: يا رسول الله، وما إذلاله لنفسه؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق) قال: فقلت له: يا أبا سعيد، فيزيد الضبي([25])حيث قام فتكلم؟ فقال الحسن: أما إنه لم يخرج من السجن حتى ندم على مقالته، قال المعلى بن زياد: فأقوم من عند الحسن فإلى يزيد الضبي من وجهي ذاك، فدخلت عليه، فقلت: يا أبا مودود، قد كنت عند الحسن آنفا فذكرتك له، فنصبتك له نصبا، قال: مه يا أبا الحسن، قال: قلت: قد فعلت، قال: فما قال الحسن؟ قلت: قال: أما إنه لم يخرج من السجن حتى ندم على مقالته تلك، قال يزيد: ما ندمت عليها وايم الله، لقد قمت مقاما أخطر على نفسي، ثم قال يزيد: أتيت الحسن ثلاث مرات، فقلت: يا أبا سعيد غلبنا على كل شيء، وعلى صلاتنا نغلب!  قال جعفر: يعني فتنة الحجاج، قال: يقول الحسن: يا عبد الله، إنك لم تصنع شيئا، إنما تعرض نفسك لهم، قال: فقمت والحكم بن أيوب ابن عم الحجاج يخطب، فقلت: الصلاة رحمك الله، قال: فجاءتني الزبانية فسعوا إلي من كل جانب، فأخذوا تلابيبي وأخذوا بلحيتي ويدي وكل شيء، وجعلوا يضربوني بنعال نفوسهم، قال: وسكت الحكم بن أيوب، وكدت أن أقتل دونه، قال: فمشوا بي إليه حتى إذا بلغوا باب المقصورة فتح، فأدخلت عليه، فقال: أمجنون أنت؟ فقلت: أصلحك الله، ما بي من جنون، قال: أو ما كنا في صلاة؟  قلت: أصلحك الله، هل كتاب أفضل من كتاب الله؟ قال: لا،  قلت: أرأيت لو أنّ رجلا نشر مصحفه فقرأه غدوة حتى يمسي ولا يصلي فيما بين ذلك،  كان ذلك قاضيا عنه صلاته؟ قال: فقال الحكم: والله إني لأحسبنك مجنونا، قال: وأنس بن مالك جالس قريبا من المنبر على وجهه خرقة خضراء قال: قلت: يا أنس،  يا أبا حمزة، أذكرك الله فإنك قد صحبت رسول الله وخدمته، الحق قلت أم بباطل؟ قال: فلا والله ما أجابني بكلمة،  قال: يقول له الحكم: يا أنس قال: لبيك أصلحك الله، قال: وقد كان فات ميقات الصلاة، قال: يقول أنس: قد كان بقي من الشمس بقية،  قال: احبساه، قال: فحبست، فذهب بي إلى الشمس، قال: فشهدوا أني مجنون - قال جعفر: إنما نجا من القتل بذلك).([26])

وقال ابن مفلح الحنبلي: (المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظنا أن ذلك من باب ترك الفتنة وهؤلاء يقابلونك لأولئك؛ ولهذا ذكر الأستاذ أبو منصور الماتريدي المصنف في الكلام وأصول الدين من الحنفية الذين وراء النهر ما قابل به المعتزلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فذكر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سقط في هذا الزمان).([27])

وقد أوضح هذا المعنى العلامة المعلمي في تعليقه على كلام ابن حجر الهيتمي الذي ردّ على من يستدل بإقرار العلماء على الكتابة والبناء على القبور، قال الهيتمي: (فإن قلت بفرض كونه إجماعًا فعليا، فمحل حجيته - كما هو ظاهر- إنما هو عند صلاح الأزمنة، بحيث ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تعطل ذلك منذ أزمن). فقال المعلمي معلقا: (وهذا صحيح، وقد مضت عدة قرون لا تكاد تسمع فيها بعالم قائم بالمعروف لا يخاف في الله لومة لائم، بل لا تجد رجلا من أهل العلم إلا وهو حافظ لحديث: "حتى إذا رأيت هوى متبعا وشحا مطاعًا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك ودع عنك أمر العامة" يعتذر به عن نفسه ويعذل به من رآه يتعرّض لإنكار شيءٍ من المنكر. وقد وجد ذلك في آخر عصر الصحابة بعد الثلاثين سنة، فكان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه واحد عصره في التجاسر على إنكار المنكر بقدر الإمكان، حتى شدّد في ذلك عبد الملك بن مروان، خطب على منبر وقال: "والله لا يقول لي أحدٌ: اتق الله، إلا ضربت عنقه..." ثم توارثها الملوك والأمراء إلا مَن شاء الله. ولهذا عظم عند الناس ابن طاووس وعمرو بن عبيد وغيرهما ممن كان يتجاسر على النهي عن المنكر. وعلى كل حال فالمعروفون من العلماء بذلك أفراد يعدون بالأصابع والجمهور ساكتون. وأما في القرون المتأخرة فشاعت المنكرات بين الملوك والأمراء والعلماء والعامة ولم يبق إلا أفراد قليلون لا يجسرون على شيء فإذا تحمّس أحدهم وقال كلمة، قالت العامة: هذا مخالف للعلماء ولما عرفنا عليه الآباء. وقال العلماء: هذا خارق للإجماع مجاهر بالابتداع. وقال الملوك والأمراء: هذا رجل يريد إحداث الفتن والاضطرابات، ومن المحال أن يكون الحق معه، وهؤلاء العلماء ومن تقدمهم على باطل، وعلى كل فالمصلحة تقتضي زجره وتأديبه! وقال بقية الأفراد من المتمسكين بالحق: لقد خاطر بنفسه وعرّضها للهلاك، وكان يسعه ما وَسِع غيره! وهكذا تمت غربة الدين، فإنا لله وإنا إليه راجعون)! ([28])

ومهما يكن من خلاف بين العلماء في مسألة الخروج على أئمة الجور في ظل الخلافة وحكم الإسلام، فإنّ ما يدعو له ابن ريس بعيد كل البعد عن أقوال هؤلاء العلماء والفقهاء، كيف وهو يجادل في هذا الكلام ليثبت وجوب طاعة الطاغوت والديكتاتور الذي يرفض شريعة الرحمن، أو من جاء به الاحتلال، ويدعي أنه إمام شرعي تجب طاعته ويحرم الخروج عليه بالإجماع، وأنّ من يقول غير ذلك فهو من الخوارج والمبتدعة الذين يستحقون القتل والقتال!

ولأجل تمرير هذه العقيدة الفاسدة أنكر ابن ريس أن تكون طاعة الإمام في الإسلام وتحريم الخروج عليه معلّلة، وقرّر أنّ مقصد الإسلام في الإمامة هي طاعة الحاكم لذاته طاعة تعبدية غير معللة؛ وهذا تماشيا مع ما يدعو له بشرعية حكم الطاغوت ومن جاء به الاحتلال، حتى وإن أعرضوا عن أحكام الإسلام ومقاصده وغاياته، وجعل ابن ريس المفسدة الكبرى هي في الخروج على الطاغوت دائما وأبدا، وأنّ الصبر عليه هي المصلحة الكبرى، وغير ذلك يكون من المصالح المظنونة، حتى لو تعطل حكم الإسلام وعلا حكم الطغيان! ولذا انزعج ابن ريس عندما قال د. حاكم: (ظل أصحاب المطامع يتواثبون على السلطة دون خوف من رمي ببدعة أو فسق، ما داموا سيصبحون بعد الوصول للسلطة أولي أمر تجب طاعتهم ويحرم الخروج عليهم ويجب الدعاء لهم؟! حتى وصل للسلطة من رُمي بالزندقة والإلحاد، وشاع الظلم والفساد، فآل أمر الأمة إلى الضعف والانحلال، والسقوط تحت سيطرة الاحتلال. لقد كان المنع من الخروج حكما معللا، وهو أن يأمن الناس، وتقام الحقوق، والحدود، والجهاد...إلخ. فإذا فاتت هذه المقاصد فلا معنى للمنع من تغيير السلطة إذا استطاعت الأمة).([29]) فعدّ ابن ريس هذا الكلام البيّن من الشبه! واستدرك عليه في الاستدراك الرابع والسبعين([30]) وقال رادّا عليه: (أنّ النصوص متواترة ومتكاثرة في السمع والطاعة للحاكم المسلم الفاسق، والصبر على جوره، فلا يجوز أن تترك هذه النصوص وتخالف لأمثال هذه المصالح المظنونة).([31])

ومن شذوذات ابن ريس أيضا سعيه بالباطل والتأويلات الفاسدة لنفي الحقائق التاريخية التي تثبت خروج السلف من الصحابة والتابعين والعلماء في القرون المفضلة على أئمة الجور، فحرّف وزوّر ليخرج بحكم قطعي على حرمة الخروج وأنها مسألة إجماعية قطعية لا يخالف فيها إلا مبتدع،  فتوصل ابن ريس بعد أكثر من 1400سنة إلى أنّ الصحابة لم يخرجوا فقال: (لا خلاف بين الصحابة في حرمة الخروج وإنما حصل الخلاف عند التابعين ثم انعقد الإجماع).([32]) فمن شدة غلو ابن ريس في طاعة الحكام وحرصه على سد الذرائع التي تقدح في شرعيتهم أن نفى ما كان ولا يزال معروفا للأمة كلها من خروج الصحابة، حتى قال ابن حزم: (قد علم أنّ أفاضل الصحابة وبقية الناس يوم الحرّة خرجوا على يزيد بن معاوية، وأنّ ابن الزبير ومن اتبعه من خيار المسلمين خرجوا عليه أيضا رضي الله عن الخارجين عليه ولعن قتلتهم... ولعمري لو كان اختلافا يخفى لعذرناه ولكنه أمر مشهور يعرفه أكثر العوام في الأسواق والمخدرات في خدورهن لاشتهاره فلقد يحق على المرء أن يخطم كلامه وأن يزمه إلا بعد تحقيق وميز وأن يعلم أن الله تعالى بالمرصاد وان كلامه محسوب مكتوب مسئول عنه يوم القيامة وعن كل تابع له إلى آخر من اتبعه عليه وزره).([33])

ومن تخبطات ابن ريس محاولاته لنفي أي خلاف بين الصحابة في مسألة الخروج على أئمة الجور، فقال بما لم يسبق إليه بنفي خروج الحسين بن علي على إمرة يزيد بن معاوية والعمل على إرجاع الحق للأمة، فأوقعته هذه المحاولات في تناقضات وإشكالات، حتى توصل في آخر الأمر إلى أنّ الحسين تاب قبل موته بقليل على عقيدة أهل السنة ورجع عقيدة المبتدعة والخوارج بزعمه! قال ابن ريس: (الحسين رضي الله عنه يرى بيعة الفاسق كبقية أهل السنة، فإنه أراد بيعة يزيد بن معاوية لكنه قتل)!([34])

ومن تناقضاته أيضا قوله بأنّ الحسين لا يعدّ خارجا على يزيد؛ لأنه لم يبايعه، مع أن ابن ريس قرر أن وصية الإمام في تعيين ولي العهد من بعده تلزم الجميع، وأنه لا يلزم في صحة الإمامة والبيعة أن يبايع الجميع!

ومن عجائبه أنه نفى خروج ابن الزبير فقال: (إنّ عبد الله بن الزبير t دعا لنفسه الحكم لمّا انفلت الأمر من بني أمية بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية، وقبل ذلك لم يدع لنفسه بالخلافة ولم يخرج)!([35]) فمن المعلوم أنّ الحسين وابن الزبير رفضوا مع من رفض من الصحابة بما عهد به معاوية بالخلافة لابنه يزيد من بعده، وبعد موت معاوية رفضوا بيعة يزيد ورفضوا هذا النظام الجديد وعملوا لعودة الشورى بين المسلمين، قال ابن كثير: (ولما أخذت البيعة ليزيد في حياة معاوية كان الحسين ممن امتنع من مبايعته هو وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن عباس،  ثم مات ابن أبي بكر وهو مصمم على ذلك، فلما مات معاوية سنة ستين وبويع ليزيد، بايع ابن عمر وابن عباس،  وصمم على المخالفة الحسين وابن الزبير،  وخرجا من المدينة فارين إلى مكة فأقاما بها، فعكف الناس على الحسين يفدون إليه ويقدمون عليه ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد، وأما ابن الزبير فإنه لزم مصلاه عند الكعبة، وجعل يتردد في غبون ذلك إلى الحسين في جملة الناس، ولا يمكنه أن يتحرك بشيء مما في نفسه مع وجود الحسين، لما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إياه عليه، غير أنه قد تعينت السرايا والبعوث إلى مكة بسببه، ولكن أظفره الله بهم كما تقدم ذلك آنفا،  فانقشعت السرايا عن مكة مفلولين وانتصر عبد الله بن الزبير على من أراد هلاكه من اليزيديين، وضرب أخاه عمرا وسجنه واقتص منه وأهانه، وعظم شأن ابن الزبير عند ذلك ببلاد الحجاز، واشتهر أمره وبعد صيته، ومع هذا كله ليس هو معظما عند الناس مثل الحسين، بل الناس إنما ميلهم إلى الحسين لأنه السيد الكبير، وابن بنت رسول الله ، فليس على وجه الأرض يومئذ أحد يساميه ولا يساويه،  ولكن الدولة اليزيدية كانت كلها تناوئه).([36]) ولما بلغ ابن الزبير مقتل الحسين أخذ يحرض على يزيد وأخذ الناس يبايعونه سرا قال ابن كثير: (ابن الزبير لما بلغه مقتل الحسين شرع يخطب الناس ويعظم قتل الحسين وأصحابه جدا، ويعيب على أهل الكوفة وأهل العراق ما صنعوه من خذلانهم الحسين، ويترحم على الحسين ويلعن من قتله، ويقول: أما والله لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه، كثيرا في النهار صيامه، أما والله ما كان يستبدل بالقرآن الغنا والملاهي، ولا بالبكاء من خشية الله اللغو والحداء، ولا بالصيام شرب المدام وأكل الحرام، ولا بالجلوس في حلق الذكر طلب الصيد،  - يعرض في ذلك بيزيد بن معاوية- فسوف يلقون غيا، ويؤلب الناس على بني أمية ويحثهم على مخالفته وخلع يزيد. فبايعه خلق كثير في الباطن،  وسألوه أن يظهرها فلم يمكنه ذلك مع وجود عمرو بن سعيد).([37]) وقد بايع أهل مكة وأهل الحجاز ابن الزبير علنا بعد الحرّة وفي حياة يزيد، فذكر ابن جرير خروج حصين بن نمير بالناس متوجها بجيش الشام من المدينة إلى مكة لقتال ابن الزبير بعد الحرّة فقال: (فقدم على ابن الزبير مكة وقد بايعه أهلها وأهل الحجاز).([38])  وقال ابن كثير: (كانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لثلاث بقين من الحجة سنة ثلاث وستين، ثم انبعث مسرف بن عقبة إلى مكة قاصدا عبد الله بن الزبير ليقتله بها، لأنه فر من بيعة يزيد، فمات يزيد بن معاوية في غضون ذلك، واستفحل أمر عبد الله بن الزبير في الخلافة بالحجاز، ثم أخذ العراق ومصر).([39]) وممن بايع ابن الزبير وقاتل معه من الصحابة المسور ابن مخرمة، قال ابن جرير: (ثم إنّ أهل الشام شدوا عليهم شدة منكرة، وانكشف أصحابه انكشافة، وعثرت بغلته فقال: تعسا! ثم نزل وصاح بأصحابه: إلي، فأقبل إليه المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، ومصعب بن عبد الرحمن ابن عوف الزهري، فقاتلوا حتى قتلوا جميعا وصابرهم ابن الزبير يجالدهم).([40]) وذكر ابن جرير بيعة الناس علنا وتأكيدها لابن الزبير بعد هلاك يزيد، فقال ابن جرير وغيره: (وفي هذه السنة جاء نعي يزيد بن معاوية لهلال ربيع الآخر وفيها بويع لمعاوية بن يزيد بالشام بالخلافة، ولعبد الله بن الزبير بالحجاز. ولما هلك يزيد مكث الحصين بن نمير وأهل الشام يقاتلون ابن الزبير ولا يعلمون بموت يزيد أربعين يوما وقد حصروهم حصارا شديدا، وضيقوا عليهم، فبلغ موته ابن الزبير قبل أن يبلغ حصين، فصاح بهم ابن الزبير: إنّ طاغيتكم قد هلك، فمن شاء منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فليفعل، ومن كره فليلحق بشآمه).([41])

فابن الزبير أعلن العداء ليزيد بعد مقتل الحسين، وحرّض الناس عليه، وبايع له أهل الحجاز سرا، وكان داعما لأهل المدينة في نزعهم البيعة من يزيد، وقد التحق به قيادات أهل المدينة بعد الحرّة، ومع ذلك يرى ابن ريس أنّ ابن الزبير لم يخرج على خلافة يزيد بن معاوية!

ثم إنّ العلماء نصوا على أنّ ابن الزبير خرج على يزيد بن معاوية، فمن هؤلاء ابن عبد البر، حيث ذكر خلاف أهل العلم في مسألة الخروج فذكر رأي من يرى الخروج فقال: (ذهب إلى هذا طائفة من السلف الصالح، واتبعهم بذلك خلف من الفضلاء والقراء والعلماء من أهل المدينة والعراق؛  وبهذا خرج ابن الزبير والحسين على يزيد، وخرج خيار أهل العراق وعلمائهم على الحجاج؛ ولهذا أخرج أهل المدينة بني أمية عنهم وقاموا عليهم فكانت الحرّة).([42])وقال ابن حجر: (وأمّا من خرج عن طاعة إمام جائر أراد الغلبة على ماله أو نفسه أو أهله فهو معذور ولا يحل قتاله وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته... وعلى ذلك يحمل ما وقعللحسين بن علي ثم لأهل المدينة في الحرّة ثم لعبد الله بن الزبير ثم للقراء الذين خرجوا على الحجاج في قصة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث).([43]) ومن أمثلة المعاصرين الشيخين ابن باز وابن عثيمين، فقد سئل الشيخ ابن باز: (بعض الشباب يستدل في قصة ابن الزبير على خروج على الوالي إن كان ظالما أو فاسقا فما كلمتكم؟) فأجاب الشيخ: (ابن الزبير اعتقد أن يزيد ابن معاوية ليس بمسلم، واعتقد أنّ له قوة تقدر على إقامة الخلافة، فخروج ابن الزبير محل نظر والله يعفو عن الجميع، فابن الزبير صحابي له اجتهاده وله عذره الشرعي).([44]) وسئل الشيخ ابن عثيمين بنفس السؤال فقال: (إنّ اجتهاد عبد الله بن الزبير بهذه ليس بمحله، ولكن نرجو له العفو والمغفرة؛ لأنّ المجتهدين من هذه الأمة إن أخطأوا فلهم أجر وإن أصابوا فلهم أجران).([45]) وسئل أيضا الشيخ مقبل الوادعي: (هل صح أنّ عبد الله بن الزبير خرج على يزيد بن معاوية، وكيف الرد على المستدلين بهذه القصة؟ الجواب: بيعة يزيد بن معاوية لم تكن مأخوذة عن أهل الحل والعقد، وممن أنكر هذه البيعة عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وقال: هذه بيعة قيصرية. بمعنى أنّهم هم الذين يتوارثون الملك، وأما المسلمون فينصبون خليفة من كان أهلا لذلك، والذهبي يقول: إنه رجل سوء، ولكنه لا يبلغ إلى حد الكفر. وقد خرج عليه بعض أفاضل الصحابة الذين هم خير من يزيد ألف مرة، وليس لهم حجة في خروج عبد الله بن الزبير وخروج الحسين كذلك، فإنه ارتكب كثيرا من المحرمات على أن عدم الخروج والصبر كان أولى).([46])

فما يسعى له سدنة الطغاة اليوم من نفي الخروج عن الحسين بن علي، وابن الزبير على يزيد بن معاوية هم في الحقيقة لا ينفون الحقائق التاريخية التاريخ فقط لنصرة الطغاة، بل يطعنون في بقية الصحابة من المهاجرين والأنصار والموالي الذين خرجوا يوم الحرّة، وبايعوا على الموت، واستشهدوا في سبيل نصرة الحق وإرجاعه إلى أهله، ومن أمثلة ذلك أنه يوم الحرة (جيء بيزيد بن وهب لمسلم بن عقبة فقال له: بايع، فقال يزيد: أبايع على سنة أبي بكر وعمر فقتله، وشفع فيه مروان لصهر بينهما فلم يشفعه).([47]) وأيضا من الأمثلة على تضحية الصحابة لإرجاع الخلافة راشدة من أيدي أئمة الجور أنهم (جاءوا بسعيد بن المسيب إلى مسلم بن عقبة، فقالوا: بايع، فقال: أبايع على سيرة أبي بكر وعمر، فأمر بضرب عنقه، فشهد له رجل أنه مجنون فخلى عنه).([48])

 وفي صحيح البخاري عن عباد بن تميم، قال: (لما كان يوم الحرة، والناس يبايعون لعبد الله بن حنظلة، فقال ابن زيد: على ما يبايع ابن حنظلة الناس؟ قيل له: على الموت، قال: لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله ، وكان شهد معه الحديبية).([49])

وقال الزهري في عدد القتلى من الشخصيات المعروفة: (سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ووجوه الموالي).([50]) وقال ابن كثير: (وقد توفي في هذه السنة خلق من المشاهير والأعيان من الصحابة وغيرهم في وقعة الحرّة مما يطول ذكرهم).([51])وقد ذكرهم أهل العلم ونعتوهم بالشهداء، فقال الذهبي: (حوادث سنة ثلاث وستين، وفيها وقعة الحرة على باب طيبة، واستشهد فيها خلق وجماعة من الصحابة).([52]) من هؤلاء الحارث بن عبد اللَّه بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول الأنصاريّ الأوسيّ. قال العدويّ: شهد الحديبيّة وما بعدها، واستشهد بالحرّة).([53]) وممن بايع الصحابيَ الأميَر عبدَ الله بن حنظلة على خلع يزيد وقتال جيشه، الصحابيُ الجليل عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، صاحب حديث الوضوء المشهور، وقد شهد أحدا،  وقيل بدرا،  وبايع تحت الشجرة، وهو قاتل مسيلمة الكذاب بالسيف بعد أن طعنه وحشي بالرمح، قال عنه الذهبي: (واستشهد يوم الحرّة).([54]) واستشهد معه ابناه في الحرّة أيضا عمير وأبو حسن. ومن الصحابة الذين قاتلوا يوم الحرة معقل بن سنان الأشجعي، قال ابن حجر في ترجمته: (استشهد بالحرة).([55]) وقال في ترجمة: الصحابي معاذ بن الحارث الأنصاري قال هو: (صحابي صغير استشهد بالحرة سنة ثلاث وستين).([56]) ومنهم: (حبيب بن أبي اليسر بن عمرو الأنصاري، قال أبو علي الجياني: له صحبة، واستشهد بالحرّة).([57]) وقال ابن حجر في ترجمة: (عمارة بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني ثقة استشهد بالحرّة وقيل مع ابن الزبير).([58])

فهذا حكم علماء الإسلام في هؤلاء الشهداء الكرام من الصحابة والتابعين الذين نصروا الإسلام، وضحوا من أجله بالأنفس، بخلاف ما يروجه سدنة الطغاة اليوم عليهم من أباطيل، ويريدون أن يحكموا على أصحاب رسول الله وأبنائهم بالطيش والضلال؛ لأجل نصرة الطاغوت ونظامه!

وصوّر ابن ريس أيضا أنّ الصحابة قد أنكروا على الحسين وأثمّوه وضلّلوه وهذا غير صحيح البتة، فالصحابة نصحوا الحسين مشفقين عليه من الإقدام على هذا الأمر، سواء منهم المؤيد له، أو المخالف له في الخروج من الأصل، أو المعارض له في الوقت والمكان والجاهزية، فكلهم مشفق عليه ولم يشنّعوا عليه أو يبدّعوه أو يؤثمّوه كما يصوره ابن ريس وسدنة الطغاة اليوم، قال ابن كثير: (ولمّا استشعر الناس خروجه أشفقوا عليه من ذلك، وحذروه منه، وأشار عليه ذوو الرأي منهم والمحبة له بعدم الخروج إلى العراق، وأمروه بالمقام بمكة، وذكروه ما جرى لأبيه وأخيه معهم).([59]) وممن ناصحه بعدم الذهاب للعراق عبد الله بن مطيع الذي قاد كتيبة قريش يوم الحرّة في المدينة عندما خرجوا على يزيد، قال ابن الأثير: (لما خرج الحسين من المدينة إلى مكة لقيه عبد الله بن مطيع فقال له: جعلت فداك! أين تريد؟ قال: أما الآن فمكة، وأما بعد فإني أستخير الله. قال: خار الله لك وجعلنا فداك! فإذا أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة فإنها بلدة مشئومة، بها قتل أبوك وخذل أخوك واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه، الزم الحرم فإنك سيد العرب لا يعدل بك أهل الحجاز أحدا ويتداعى إليك الناس من كل جانب، لا تفارق الحرم، فداك عمي وخالي! فوالله لئن هلكت لنسترقن بعدك).([60])

وممن أيّده عبد الله بن الزبير وهم في مكة: (فجعل ابن الزبير يحرض على بني أمية، وكان يغدو ويروح إلى الحسين، ويشير عليه أن يقدم العراق، ويقول: هم شيعتكم).([61]) قال أبو بكر بن عياش: (كتب الأحنف إلى الحسين: {فاصبر إن وعد الله حق، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون}.([62]) وجاء ابن عباس إلى الحسين ناصحا له أن تكون قاعدته ومنطلقه في التغيير والإصلاح من اليمن بدل العراق فقال: (يا ابن عم! إني أتصبر ولا أصبر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، أن أهل العراق قوم غدر فلا تغترن بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم اقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصونا وشعابا، ولأبيك به شيعة، وكن عن الناس في معزل، واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب، فقال الحسين: يا ابن عم! والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق).([63]) وقال له ابن عباس: (أخبرني إن كان قد دعوك بعد ما قتلوا أميرهم ونفوا عدوهم وضبطوا بلادهم فسر إليهم، وإن كان أميرهم حي وهو مقيم عليهم،  قاهر لهم،  وعماله تجبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال،  ولا آمن عليكم أن يستفزوا عليك الناس ويقلبوا قلوبهم عليك،  فيكون الذي دعوك أشد الناس عليك).([64])

وسئل عبد الله بن عمرو عن الخروج مع الحسين فقال: (أرى أن تخرج معه، فإنك إن أردت دنيا، أصبتها، وإن أردت آخرة، أصبتها). قال ابن كثير معلقا: (هذا يدل على تصويب عبد الله بن عمرو للحسين في مسيره، وهو رأي ابن الزبير وجماعة من الصحابة شهدوا الحرّة).([65])

فتقدير الوقت والعدّة للخروج أو الجهاد هذا راجع للرأي والاجتهاد، والخطأ فيه لا يقدح في أصل المشروعية أو دين فاعله، وكذلك الهزيمة والاستسلام للعدو،  فالصحابة راعوا هذا الاجتهادات فلم يعدّوا الحسين بفعله أنه ضال أو مبتدع كما يصوره ابن ريس ومن على طريقته،  والأمثلة على ذلك كثيرة منها ما كان من أصحاب زيد بن علي في الكوفة ممن بايعوه فقد كانوا يمنعونه من الخروج على هشام بن عبد الملك تقديرا للزمان والمكان، قال ابن الجوزي: (جماعة من وجوه أهل الكوفة بايعوه حين كان بالكوفة منهم سلمة بن كهيل، ونصر بن خزيمة، وحجية بن الأجلح، ثم إنّ سلمة أشار على زيد ألا يخرج، فلما رأى ذلك داود بن علي قال له: يا ابن عم، لا يغرنك هؤلاء من نفسك ففي أهل بيتك لك عبرة،  وفي خذلان هؤلاء إياهم، فقال: يا داود، إن بني أمية قد عتوا. فلم يزل به داود حتى شخص إلى القادسية).([66])

فمسألة الخروج كمسألة الجهاد يراعى فيها الاستعداد والعدة، وقد سأل العمري العابد وهو عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم مالك بن أنس فقال: (يا أبا عبد الله أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله عز وجل وحكم بغيرها؟ فقال مالك: الأمر في ذلك إلى الكثرة والقلة).([67])

وقال ابن خلدون: (أمّا الحسين فإنّه لمّا ظهر فسق يزيد عند الكافّة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره فرأى الحسين أنّ الخروج على يزيد متعيّن من أجل فسقه لا سيّما من له القدرة على ذلك وظنّها من نفسه بأهليّته وشوكته فأمّا الأهليّة فكانت كما ظنّ وزيادة وأمّا الشّوكة فغلط يرحمه الله فيها لأنّ عصبيّة مضر كانت في قريش وعصبيّة عبد مناف إنّما كانت في بني أميّة... فقد تبيّن لك غلط الحسين إلّا أنّه في أمر دنيويّ لا يضرّه الغلط فيه وأمّا الحكم الشّرعيّ فلم يغلط فيه لأنّه منوط بظنّه وكان ظنّه القدرة على ذلك ولقد عذله ابن العبّاس وابن الزّبير وابن عمر وابن الحنفيّة أخوه وغيره في مسيره إلى الكوفة وعلموا غلطه في ذلك ولم يرجع عمّا هو بسبيله لما أراده الله.

وأمّا غير الحسين من الصّحابة الذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشّام والعراق ومن التّابعين لهم فرأوا أنّ الخروج على يزيد وإن كان فاسقا لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج والدّماء فأقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين ولا أنكروا عليه ولا أثّموه لأنّه مجتهد وهو أسوة المجتهدين ولا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره فإنّهم أكثر الصّحابة وكانوا مع يزيد ولم يروا الخروج عليه وكان الحسين يستشهد بهم وهو بكربلاء على فصله وحقّه ويقول سلوا جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدريّ وأنس بن مالك وسهل بن سعيد وزيد بن أرقم وأمثالهم ولم ينكر عليهم قعودهم عن نصره ولا تعرّض لذلك لعلمه أنّه عن اجتهاد وإن كان هو على اجتهاد) ثم قال ابن خلدون دافعا توهم من يظن أن الصحابة الذين خالفوا الحسين في خروجه يجيزون ليزيد وجنه قتاله كما ينظر له ابن ريس وسدنة الطغاة اليوم، بل صحح فعل الحسين في خروجه وأنه على الحق في خروجه واجتهاده قال: (واعلم أنّ الأمر ليس كذلك وقتاله لم يكن عن اجتهاد هؤلاء وإن كان خلافه عن اجتهادهم، وإنّما انفرد بقتاله يزيد وأصحابه، ولا تقولنّ إنّ يزيد وإن كان فاسقا ولم يجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهم صحيحة، واعلم أنّه إنّما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعا وقتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل، وهو مفقود في مسألتنا فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد ولا ليزيد بل هي من فعلاته المؤكّدة لفسقه والحسين فيها شهيد مثاب وهو على حقّ واجتهاد والصّحابة الّذين كانوا مع يزيد على حقّ أيضا واجتهاد).([68])

وقال ابن حجر في أقسام الخارجين على أئمة الجور: (قسم خرجوا غضبا للدين من أجل جور الولاة وترك عملهم بالسنة النبوية فهؤلاء أهل حق ومنهم الحسن بن علي وأهل المدينة في الحرّة والقراء الذين خرجوا على الحجاج).([69])

والقول بأنّ الحسين أراد أن يبايع يزيد لم يرد في شيء من الروايات التي ذكرها المؤرخون، والذي ورد أنه أراد أن ينزل على حكم يزيد دون أمرائه، والنزول على حكمه لا يعني بطلان ما كان عليه، كاستسلام الجيوش في جهاد مشروع للعدو، قال ابن كثير: (بعث عبيد الله بن زياد عمر بن سعد لقتالهم، فقال له الحسين: يا عمر اختر مني إحدى ثلاث خصال، إما أن تتركني أرجع كما جئت، فإن أبيت هذه فسيرني إلى يزيد فأضع يدي في يده فيحكم في ما رأى، فإن أبيت هذه فسيرني إلى الترك فأقاتلهم حتى أموت. فأرسل إلى ابن زياد بذلك، فهم أن يسيره إلى يزيد، فقال شمر بن ذي الجوشن: لا! إلا أن ينزل على حكمك، فأرسل إلى الحسين بذلك فقال الحسين: والله لا أفعل).([70])

وهنا سؤلان لابن ريس: فقد أشار ابن ريس على استحياء بخطأ صاحب العواصم من القواصم الذي برّر فيه قتال الحسين بأنه على وفق الشريعة؛ استدلالا بحديث (من أتاكم وأنتم على رجل فاقتلوه كائنا من كان). وهذا الحديث ومثله يستدل به ابن ريس على قتل المعارضين الخارجين على الطغاة، أو من يتهيأ لذلك كما مر معنا، وهنا يخطئ ابن ريس صاحب العواصم!

وقد قال د. حاكم: (ولا خلاف بين الأئمة وسلف الأمة على أنه إن كان الخارج عدلا -كالحسين بن علي وابن الزبير – والإمام جائرا -كيزيد -أنه يحرم القتال مع الجائر).([71]) فقال ابن ريس مستدركا: (هذه مبالغة من حاكم العبيسان، ولايستغرب من مثله هذه الاندفاعات والحماسات والمبالغات). ثم استدل ابن ريس بحديث الذي استدل به صاحب العواصم (من أراد أن يفرق هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائنا من كان).([72]) فابن ريس يرى مشروعية قتال الخارجين على أئمة الجور -كيزيد- وإن كان الخارج عليه من أهل العدل -كالحسين- وفي نفس الوقت يضلل صاحب العواصم في هذا التقرير فحصل التناقض والإشكال!

 فالسؤال الأول الموجه لابن ريس: هل يرى أنّ الحسين بن علي كان على الحق في رفضه بيعة يزيد، وفي خروجه لإسقاط خلافة بني أمية؟ أم أنه كان على الباطل ومخالفا للإجماع وعلى طريقة الخوارج، وأنه كان مستحقا للقتل من يزيد وجنده؟

السؤال الثاني: قال ابن ريس: إن الحسين لم يخرج على البيعة؛ لأنه لم يبايع، وأنه أخطأ في عدم البيعة فقط، فهل من لم يبايع حاكما في بلده ومن ثم يخرج عليه، هل يسلم بذلك من بدعة الخوارج، والخروج من أهل السنة، وإن كان مخطئا في تركه للبيعة؟ 

ثم زعم ابن ريس أنّ الخلاف في مسألة الخروج إن وجد فهو عند التابعين دون الصحابة، فقال: (لا خلاف بين الصحابة في حرمة الخروج وإنما حصل الخلاف عند التابعين ثم انعقد الإجماع).([73])

وهذا طعن في التابعين؛ إذ أنهم خالفوا إجماع الصحابة قبلهم وركبوا عقيدة الخوارج! فأي علم تلقاه التابعون الذي لم يعصمهم من عقيدة الخوارج والمبتدعة؟ وأيّ فقه تلقاه التابعون من الصحابة الذي يجعلهم يجزمون بأن قتال الحجاج والظلمة من الجهاد والحق الذي لاريب فيه؟ كما كان من سعيد بن جبير، قال الذهبي في ترجمته: (الإمام الحافظ المقرئ المفسر الشهيد).([74]) فقد كان يحرض الناس على الخروج على الحجاج وعبد الملك بن مروان، وكان يقول: (قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين،  وعلى آثامهم قاتلوهم على جورهم في الحكم وتجبرهم في الدين واستذلاهم الضعفاء وإماتتهم الصلاة).([75])وقال ابن سعد: (كان سعيد بن جبير فيمن خرج من القراء على الحجاج بن يوسف وشهد دير الجماجم قال: أخبرنا سعيد بن محمد الثقفي عن الزبرقان الأسدي قال: سألت سعيد بن جبير في الجماجم فقلت له: إني مملوك ومولاي مع الحجاج أفتخاف علي إن قتلت أن يكون علي وزر قال: لا قاتل فإن مولاك لو كان ها هنا قاتل بنفسه).([76])

ومن طلاب ابن عباس الذين قادوا المعركة في الخروج على الحجاج الفقيه سيف بن فيروز أبو البختري، قال عنه حبيب بن أبي ثابت: اجتمعت أنا وسعيد بن جبير وأبو البختري،  فكان أبو البختري أعلمنا وأفقهنا([77])، فكان أبو البختري يخطب في الجماهير قبل وقعة الجماجم فيقول: (أيها الناس، قاتلوهم على دينكم ودنياكم، فوالله لئن ظهروا عليكم ليفسدن عليكم دينكم وليغلبن على دنياكم).([78]) ومن طلاب ابن عباس أيضا الإمام عامر بن شراحيل الشعبي،  كان يحث الناس فيقول: (يا أهل الإسلام قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم، فوالله ما أعلم قوما على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور منهم في الحكم، فليكن بهم البدار).([79])

ولم يكتف ابن ريس بنفي خروج عن الصحابة والتابعين بل شكك فيمن ينقل عنهم ويحتج بقولهم وفعلهم كابن حزم، فقال ابن ريس: (وكشف هذه الشبهة هو بيان أنّ الذين نسب لهم الخروج عامته لا يصح الاستدلال به... فإنهم فعلوا فعلا ظنه ابن حزم خروجا وليس كذلك أو أخطا في نسبته،  فلا يعول عليه... فأخطأ ابن حزم في نسبة الخروج إلى علي وكل من معه، وكذلك معاوية وكل من معه،  فإن هؤلاء لم يخرجوا على حاكم... وأخطأ ابن حزم في نسبة الخروج إلى طلحة والزبير وعائشة،  ففعلهم ليس خروجا على حاكم).([80]) ثم توصل ابن ريس للنتيجة النهائية في حكم الاعتماد على نقل ابن حزم فقال: (فنخلص من هذا أنه لا يصح الاعتماد على ما نسبه ابن حزم لأهل العلم فيما تقدم نقله عنه).([81])

واستدراك ابن ريس هنا يدل على جهله بكلام العلماء وعدم تصوره له فضلا عن الحكم عليه، والحكم على الشيء فرع من تصوره، أو أن ّهذا من تضليله أو كليهما وهو الأرجح، وهو دليل أيضا على تعالمه وجرأته في إبطال كلام الأئمة والعلماء لمجرد أنه مخالف لتقريراته البدعية التي يؤصلوها في إمامته المنسوبة لأهل السنة كذبا وزورا.

فكلام العلماء على مسألة الخروج على أئمة الجور بالسيف ينطلق من مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد استدلوا بعموم نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} وحديث: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده).([82]) وأيضا استدلوا بنصوص خاصة في المسألة كحديث: (سيكون أمراء من بعدي يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن لا إيمان بعده).([83])

فالمسألة الكلية عندهم هي حكم سل السيوف في إزالة المنكر إذا لم يمكن إزالته إلا بالسيف، وهو ما فعله ابن حزم هنا حيث ذكر من أوجب ذلك أو أجازه بقوله أو فعله كعلي رضي الله عنه مع من خالفه، وكذلك معاوية وأهل الشام وغيرهم ممن ذكر، ولم يقل ابن حزم أن عليا ومعاوية وعائشة والزبير كانوا يرون الخروج على الخلفاء بالسيف! وإنما كلامه في حكم حمل السيف والقتال في إزالة المنكر، وهذه حجة من يرى الخروج على أئمة الجور بالسيف من الصحابة والتابعين وأهل السنة، وأنه مندرج عندهم تحت حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعموم النصوص، ولا يستثنون حاكما ولا غيره بخلاف عقيدة ابن ريس التي لا يرى غيرها!

 قال ابن حزم: (اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم لقول الله تعالى {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} ثم اختلفوا في كيفيته) ثم ذكر خلاف أهل الإسلام ومن ضمنهم أهل السنة في هذه المسألة، وأنهم انقسموا إلى قسمين:

الأول: (ذهب بعض أهل السنة من القدماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم وهو قول أحمد بن حنبل وغيره وهو قول سعد بن أبي وقاص وأسامة ابن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم إلى أن الغرض من ذلك إنما هو بالقلب فقط ولا بدأ وباللسان إن قدر على ذلك ولا يكون باليد ولا بسل السيوف ووضع السلاح أصلا وهو قول أبي بكر ابن كيسان الأصم وبه قالت الروافض كلهم ولو قتلوا كلهم إلا أنها لم تر ذلك إلا ما لم يخرج الناطق فإذا خرج وجب سل السيوف حينئذ معه وإلا فلا واقتدى أهل السنة في هذا بعثمان رضي الله عنه وممن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم وبمن رأى القعود منهم).([84])

والثاني: فيمن يرى وجوب استخدام السيف والقوة في إزالة المنكر إذا لم يكن إزالته إلا بذلك، سواء كان هذا المنكر صادرا من الإمام أو ممن دونه قال ابن حزم: (وذهبت طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة وجميع الخوارج والزيدية إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك، قالوا فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ولا ييأسون من الظفر، ففرض عليهم ذلك وإن كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كانوا في سعة من ترك التغيير باليد وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكل من معه من الصحابة وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير وكل من كان معهم من الصحابة وقول معاوية وعمرو والنعمان بن بشير وغيرهم ممن معهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وهو قول عبد الله بن الزبير ومحمد والحسن بن علي وبقية الصحابة من المهاجرين والأنصار والقائمين يوم الحرّة رضي الله عن جميعهم أجمعين...).([85])

فهذا كلام ابن حزم في غاية الوضوح في ذكره أصل مسألة الخروج على أئمة الجور بالسف، فلا قيمة لما شغّب به ابن ريس وجهل.

وأهل العلم من المتقدمين والمتأخرين غير ابن حزم الذين ذكروا مسألة الخروج بالسيف على أئمة الجور؛ أدرجوها تحت باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنهم من يستدل بكلام ابن حزم الذي استنكره المتعالم ابن ريس! كالشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الحنبلي النجدي عند كلامه على مسألة الخروج على أئمة الجور وسل السيوف عليهم فقال: (قد اختلف أهل السنة والجماعة في هذه المسألة،  وكذلك أهل البيت؛  فذهبت طائفة من أهل السنة من الصحابة،  فمن بعدهم كسعد بن أبي وقاص،  وأسامة ابن زيد،  ومحمد بن مسلمة،  وعبد الله بن عمر وغيرهم،  وهو قول أحمد بن حنبل،  وجماعة من أصحاب الحديث،  إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان -إن قدر على ذلك-، وإلا فبالقلب فقط، ولا يكون باليد، وسل السيوف، والخروج على الأئمة، وإن كانوا أئمة جور... وذهبت طائفة أخرى من الصحابة ومن بعدهم من التابعين،  ثم الأئمة بعدهم إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف،  والنهي عن المنكر واجب، إذا لم يقدر على إزالة المنكر إلا بذلك... وهو قول عبد الله بن الزبير، والحسين بن علي، وهو قول كل من قام على الفاسق الحجاج؛ كعبد الرحمن بن أبي ليلى، وسعيد بن جبير...).([86])

وقال ابن تيمية مبيّنا أصل مسألة الخروج على أئمة الجور: (في النهي عن الخروج على الأمراء، وندب إلى ترك القتال في الفتنة، وإن كان الفاعلون لذلك يرون أنّ مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالذين خرجوا بالحرّة وبدير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما).([87])

وقال المعلمي: (وكان أهل العلم مختلفين في ذلك فمن كان يرى الخروج يراه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بالحق، ومن كان يكرهه يرى أنه شق لعصا المسلمين وتفريق لكلمتهم وتشتيت لجماعتهم وتمزيق لوحدتهم وشغل لهم بقتل بعضهم بعضا، فتهن قوتهم وتقوى شوكة عدوهم وتتعطل ثغورهم، فيستولي عليها الكفار ويقتلون من فيها من المسلمين ويذلونهم وقد يستحكم التنازع بين المسلمين فتكون نتيجة الفشل المخزي لهم جميعا).([88])

وقال الشوكاني: (وقد استدل القائلون بوجوب الخروج على الظلمة ومنابذنتهم السيف ومكافحتهم بالقتال بعمومات من الكتاب والسنة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).([89])

وأما من منع الخروج بالسيف على أئمة الجور كبعض الصحابة والتابعين والإمام أحمد وغيره؛ فقد عللوا ذلك بأنه من قتال الفتنة المنهي عنه؛ ولما يترتب عليه من مفاسد مقابل المصالح الكلية في ظل الخلافة ووحدة الأمة، وأوجبوا الإنكار باللسان والقلب دون السيف ما داموا في دائرة الظلم،قال ابن تيمية: (استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم،  ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم، وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين. وباب قتال أهل البغي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشتبه بالقتال في الفتنة).([90])

ولم يستثن ابن ريس من كلام ابن حزم الذي عدّه خطأ ولا يجوز الاعتماد عليه إلا في شخص واحد قال: (ونسبته إلى الحسن بن صالح صحيحة، ولكن هذا مما أنكره السلف عليه كالثوري وزائدة بن قدامة والإمام أحمد).([91]) وقال: (تحذير الثوري من الحسن بن صالح بن حي لأنه كان يرى السيف).([92]) وقد نشر ابن ريس مقالا في موقعه بالإنترنت بعنوان: (تبديع السلف للحسن بن صالح).([93]) أي بسبب رأيه في الخروج على أئمة الجور.

وهذا أيضا من تضليل ابن ريس، فإنّ العلماء إنما رموا الحسن بن صالح بالبدعة لرأيه في التشيع، كما قال الذهبي: (هو من أئمة الإسلام، لولا تلبسه ببدعة).([94]) فنسبوه إلى فرقة البترية وإلى فرقة الصالحية نسبة إليه وهما فرقتان من الزيدية الشيعة، جمعت بين التشيع وقول الخوارج في التكفير بالكبيرة، والاعتزال، والتوقف في تكفير عثمان، قال ابن تيمية: (الصالحية؛ لأنهم ينسبون إلى الحسن بن صالح بن حي الفقيه).([95]) وقال الزركلي: (الحسن بن صالح بن حي الهمدانيّ الثوري الكوفي، أبو عبد الله: من زعماء الفرقة (البترية) من الزيدية).([96]) وقد ذكر البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق، أقسام الزيدية فذكر الجارودية، والسليمانية، والبترية، وقال: (البترية أتباع رجلين أحدهما الحسن بن صالح بن حي... اجتمعت الفرق الثلاث الذين ذكرناهم من الزيدية على القول بأنّ أصحاب الكبائر من الامة يكونون مخلدين في النار فهم من هذا الوجه كالخوارج).([97])

وقد نقل الذهبي ما يدل على رجوع ابن حي من هذا المذهب الذي كان عليه فقال: (عن زافر بن سليمان قال: أردت الحج، فقال لي الحسن بن صالح: إن لقيت أبا عبد الله سفيان الثوري بمكة، فأقره مني السلام، وقل: أنا على الأمر الأول).([98])

أما رأي ابن حي في الخروج على أئمة الجور، فهو لم يأت ببدع ممن كان قبله من الأئمة والعلماء فهو شبيه بهم؛ ولذا نقل الذهبي عن وكيع قال: (حدثنا الحسن قيل: من الحسن؟ قال: الحسن بن صالح، الذي لو رأيته ذكرت سعيد بن جبير، أو شبهته بسعيد بن جبير) قال الذهبي: (بينهما قدر مشترك، وهو العلم، والعبادة، والخروج على الظلمة تدينا).([99])

ولذا نجد علماء ممن لا يرون جواز الخروج أثنوا على من خرجوا وعدّوا من قتل في ذلك من الشهداء كما مر معنا ولم يبدعوهم،  وقد ردّ ابن حجر عن ابن حي ممن تكلم فيه من أقرانه في مذهبه بالخروج على أئمة الجور فقال: (وقولهم كان يرى السيف يعني كان يرىالخروج بالسيف على أئمة الجور وهذا مذهب للسلف قديم لكن استقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه ففي وقعة الحرّة ووقعة بن الأشعث وغيرهما عظة لمن تدبر وبمثل هذا الرأي لا يقدح في رجل قد ثبتت عدالته واشتهر بالحفظ والإتقان والورع التام).([100]) وسمع بشر بن الحارث الحافي من يقول إنّ ابن حي يرى السيف فقال: (هات من لم ير السيف من أهل زمانك كلهم إلا قليل)!([101])

وقد ورد أنّ سفيان الثوري تراجع عن طعنه في ابن حي في مذهبه في الخروج، قال الذهبي: (عن عبد الله بن محمد بن سالم، سمعت رشيدا الخباز - وكان عبدا صالحا - وقد رآه أبو عبيدة، قال: خرجت مع مولاي إلى مكة، فجاورنا، فلما كان ذات يوم، جاء إنسان فقال لسفيان: يا أبا عبد الله! قدم اليوم حسن وعلي ابنا صالح. قال: وأين هما؟ قال: في الطواف. قال: إذا مرا فأرنيهما. فمر أحدهما، فقلت: هذا علي، ومر الآخر، فقلت: هذا حسن. فقال: أما الأول فصاحب آخرة، وأما الآخر فصاحب سيف، لا يملأ جوفه شيء. قال: فيقوم إليه رجل ممن كان معنا، فأخبر عليا، ثم مضى مولاي إلى علي يسلم عليه، وجاء سفيان يسلم عليه. فقال له علي: يا أبا عبد الله! ما حملك على أن ذكرت أخي أمس بما ذكرته، ما يؤمنك أن تبلغ هذه الكلمة ابن أبي جعفر، فيبعث إليه، فيقتله؟ قال: فنظرت إلى سفيان وهو يقول: أستغفر الله، وجادتا عيناه).([102])

ومن قواعد ابن ريس الباطلة زعمه أنّ كل ما ذكر في كتب العقيدة فهو يدل على الإجماع وأنّ المخالف فيه مبتدع، ومن ذلك حرمة الخروج على أئمة الجور، قال ابن ريس: (الدليل الرابع: الإجماع: قرر كثير من أهل السنة في كتب العقائد الإجماع على وجوب السمع والطاعة للحاكم المسلم، وحرمة الخروج عليه ولو فسق وظلم، فدل هذا عل أن المخالف في هذا هم أهل البدع والضلال).([103]) وقال: (ومما يبيّن شذوذ هذا القول، وأنه مخالف بإجماع السلف: ما تقدم نقله في كتب العقائد من وجوب السمع والطاعة).([104])

 فجعل ابن ريس ما ينقل في كتب العقائد من المسائل القطعية، وهذا غير صحيح فليس كل ما يذكر في كتب العقائد هي من المسائل القطعية الإجماعية، فهناك مسائل أخطأوا فيها، ومسائل اجتهادية تعبر عن واقع المؤلف وزمانه، فمن ذلك مثلا مسألة الجهر بالبسملة، قال سفيان الثوري في بيان عقيدته: (يا شعيب بن حرب ولا ينفعك ما كتبت حتى يكون إخفاء بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة أفضل عندك من أن تجهر بهما، يا شعيب بن حرب لا ينفعك الذي كتبت حتى تؤمن بالقدر خيره وشره وحلوه ومره) ([105])

وذكر ابن بطة في عقيدته: (من السنة ألا تجهر ببسم الله الرحمن الرحيم).([106]) وقال وكيع: (الجهر بالبسملة بدعة).([107]) وروي مثل ذلك عن أحمد وغيره. وقد صارت هذه المسألة من مسائل العقيدة التي يوالى ويعادى عليها، كما قال ابن الأثير: (في هذه السنة وقعت الفتنة بين الفقهاء الشافعية والحنابلة ببغداد، ومقدم الحنابلة أبو يعلى بن الفراء، وابن التميمي، وتبعهم من العامة الجم الغفير، وأنكروا الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ومنعوا من الترجيع في الأذان، والقنوت في الفجر، ووصلوا إلى ديوان الخليفة، ولم ينفصل حال، وأتى الحنابلة إلى مسجد بباب الشعير، فنهوا إمامه عن الجهر بالبسملة، فأخرج مصحفا وقال: أزيلوها من المصحف حتى لا أتلوها).([108])

وقد سمعت أحد أمثال ابن ريس يفتي بهجر من يجهر بالبسملة وينهى عن الصلاة خلفهم؛ لأنهم مبتدعة.([109])

 والجهر بالبسملة هو مذهب الإمام الشافعي، قال ابن تيمية: (الجهر بالبسملة هو مذهب الرافضة، وبعض الناس تكلم في الشافعي بسببها، وبسبب القنوت، ونسبه إلى قول الرافضة والقدرية؛ لأنّ المعروف في العراق أنّ الجهر كان من شعار الرافضة، وأنّ القنوت في الفجر كان من شعار القدرية الرافضة، حتى أنّ سفيان الثوري وغيره من الأئمة يذكرون في عقائدهم ترك الجهر بالبسملة؛ لأنه كان عندهم من شعار الرافضة، كما يذكرون المسح على الخفين؛ لأنّ تركه كان من شعار الرافضة، ومع هذا فالشافعي لما رأى أن هذا هو السنة كان ذلك مذهبه وإن وافق قول الرافضة).([110]) وقد ردّ الشوكاني على من ينكر على من يرى الجهر بالبسملة ويعدها من البدع، برسالة ذكر فيها أقوال أهل العلم ممن يرون الجهر ثم قال: (إنكار بعض أهل العلم على من جهر بالبسملة، وزعمه أنّ ذلك بدعة، وإلزام الناس بترك الجهر بها، ومعاقبته لمن جهر بها، فإن ما ذكرنا هاهنا يكفي في دفع الإنكار، وردع المنكر لذلك إذا كان ممن يعقل حجج الله - سبحانه - ويعرف مواطن الإنكار التي أمر الله عباده بالإنكار على من فعلها، وأخذ على الحاملين لحجج الله أن يأخذوا على يد مرتكبيها ويأطروه على الحق أطرا، وأما مثل هذه المسألة فليس الإنكار فيها إلا من باب إنكار المعروف، وتفريق كلمة عباد الله بغير حجة نيرة، ولا برهان واضح. والمهدى من هداه الله. وحسبنا الله ونعم الكيل).([111])

وقال الشيخ ابن باز في بيان أنّها مسألة اجتهادية لا يبدع فيها المخالف: (لعلّ الشافعي رحمه الله إذا ثبت عنه أنه قال ذلك أخذ برواية أبي هريرة حين سمى وجهر، ولما فرغ من الصلاة قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله . فهذا ظاهره؛ أنّ النبي جهر؛ لأنّ أبا هريرة جهر، وقال: إني أشبهكم صلاة برسول الله. فالجهر بها جائز، ولكن الأفضل عدم الجهر ولا ينبغي فيها النزاع، ينبغي أن يكون الأمر فيها خفيفا، والأفضل تحري سنة الرسول بعدم الجهر، وإذا جهر بعض الأحيان من أجل حديث أبي هريرة، أو من أجل التعليم؛ ليعلم الناس أنها تقرأ، فلا بأس بذلك. قد جهر بها بعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم).([112])

ومن أباطيل الريس قوله في الاستدراك الخامس والخمسين: (الدكتور حاكم يثني على كل حركة خروج ومنازعة للحاكم ولو على مثل عمر بن عبد العزيز).([113]) وقال ابن ريس أنّ د حاكم: (يدور مع الخروج والثورات حيث دارت).([114]) وقد نقل الريس هذا الكلام من كتاب (الغوغائية) حيث بوب بابا بعنوان (الخروج ضد عمر بن عبد العزيز).([115]) وهذا من التضليل وإلا فإنّ د. حاكم قد نصّ في كتابه الحرية على وجوب الطاعة للسلطة؛ إذا قامت بواجبها، ويحرم الخروج عليها وإن صدر منها ظلم وجور قال: (إذا حافظت السلطة على الأصول العامة القطعية؛ بإقامة شعائر الإسلام وأركانه الظاهرة، والحكم بالكتاب وشرائعه، ولم تظهر كفرا بواحا فالواجب السمع والطاعة لها بالمعروف، وفيما لا معصية فيه لله، حتى وإن خرج الإمام عن حد العدالة بظلم أو فسق قاصر).([116]) وقال أيضا: (وجوب الطاعة للسلطة ما قامت بواجبها وعدم منازعتها في ذلك).([117]) أما الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز فقد نقل الدكتور كلام الإمام مالك بأنّ مثله يقاتل معه على من خرج عليه في أكثر من موضع، ولذا زعم د. حمد العثمان في كتابه الغوغائية بأنّ د. حاكم يرى (السمع والطاعة فقط لعمر بن عبد العزيز).([118]) أما قولهم أنه يثني على من خرج على عمر بن عبد العزيز فهذا من الباطل والفهم السقيم،  فالدكتور حاكم يبيّن حراك الأمة السياسي والفقهاء لمواجهة ظلم السلطة، ومن ذلك ما كان من الحركة العباسية في مواجهة حكم بني أمية الظالم، والذي بدأ هذا الحراك في عهد الوليد بن عبد الملك قبل وصول عمر بن عبد العزيز للحكم، فقد عُذب علي بن عبد الله بن عباس وأبعد من الشام بسبب حراكه السياسي، ثم أعيد في عهد سليمان بن عبد الملك وترك يواصل عمله السياسي، وأيضا كان عمل محمد بن علي قبل ولاية عمر بن عبد العزيز قال الذهبي: (قال إسماعيل الخطبي: كان ابتداء دعاة بني العباس إلى محمد وطاعتهم لأمره،  وذلك زمن الوليد، فلم يزل الأمر ينمى ويقوى ويتزايد إلى أن مات في مستهل ذي القعدة سنة أربع وعشرين، وقد انتشرت دعوته وكثرت شيعته).([119])  وعلى أثر ذلك شُكل العمل المنظم السري الذي قام به محمد بن علي، وقد انطلقت هذه الحركة المنظمة سنة 103ه كما نص على ذلك د. حاكم في كتاب الحرية حيث قال: (وجه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس رسله إلى العراق وخراسان للدعوة إلى آل البيت وإسقاط بني أمية،  وقد اختار سنة 103هـ اثني عشر نقيبا من سبعين رجلا، وكتب لهم كتابا يسيرون وفق خطته ويمتثلون ما فيه).([120]) وقد كان محمد بن علي يعدّ من الفقهاء والعباد ومن المجاهدين والمحدثين الثقات،  حتى أنه دخل على (أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز،  فلما خرج قال عمر: لو كان إلي من الخلافة شيء لقمصتها هذا الخارج).([121]) وقد كانت المعارضة بجميع توجهاتها تقدر عمر بن عبد العزيز وتحفظ له مكانته وعدله، فقد كانت أول خطبة لعمر بن عبد العزيز أنصف فيها المعارضة وعرض بالخلفاء الظلمة من بني أمية،  قال ابن كثير: (لما ستخلف عمر بن عبد العزيز قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إنه لا كتاب بعد القرآن،  ولا نبي بعد محمد عليه السلام،  وإني لست بقاض ولكني منفذ،  وإني لست بمبتدع ولكني متبع، إنّ الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بظالم ألا إنّ الإمام الظالم هو العاصي، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عزوجل).([122]) وكان عمر بن عبد العزيز يؤوي المعارضة،  فعندما كان أميرا على المدينة قال الزهري: (حج عمر بن عبد العزيز وأنا معه فجاءني سعيد بن جبير ليلا وهو في خوفه فدخل منزلي فقال هل تخاف علي صاحبك فقلت لا بل ائمن).([123]) وممن حفظ لعمر بن عبد العزيز مكانته قيادات الثورة العباسية،  فقد كانوا ينهون عن غيبته والطعن فيه كما روى ابن سعد في طبقاته قال: (إنّ عمر بن عبد العزيز قسم بينهم سهم ذي القربى بين بني عبد المطلب ولم يعط نساء بني عبد المطلب من غير بني عبد المطلب. وأعطى نساء بني عبد المطلب. لم يجاوز بني عبد المطلب. أخبرنا محمد بن عمر قال: فحدثني إسماعيل بن عبد الملك عن يحيى بن شبل قال: جلست مع علي بن عبد الله بن عباس وأبي جعفر محمد بن علي فجاءهما آت فوقع بعمر بن عبد العزيز. فنهياه وقالا: ما قسم علينا خمس منذ زمن معاوية إلى اليوم. وإن عمر بن عبد العزيز قسمه على بني عبد المطلب. فقلت: فهل أعطى بني عبد المطلب؟ فقالا: ما جاوز به بني عبد المطلب).([124]) ومن هؤلاء الإمام التابعي عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي: خطيب كان يقول بالإرجاء،  ثم رجع عن هذه العقيدة وخرج مع ابن الأشعث،  وهرب بعد الهزيمة،  وعندما تولى الخلافة  وصحب عمر ابن عبد العزيز رجع وصحبه([125]).

 بل حتى الجماعات المتظرفة كالخوارج كفوا عن قتال السلطة في زمن عمر بن عبد العزيز، (فلما بلغ الخوارج سيرة عمر وما رد من المظالم قالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا).([126])

 إلا أنّ المعارضة تدرك أنّ ما يقول به عمر بن عبد العزيز من السير على خطى الشيخين أبي بكر وعمر والخطاب الراشدي، ليس إلا عملا فرديا لا يمثل حكم بني أمية، سواء كان ذلك في إمارته أو في خلافته، ولذا كتب عمر بن عبد الملك إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز مهددا له (إنك قد أزريت على من كان قبلك من الخلفاء، وعبت عليهم وسرت بغير سيرتهم بغضا لهم وسبى لمن بعدهم من أولادهم، قطعت ما أمر الله به أن يوصل إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم، فأدخلتها في بيت المال جورا وعدوانا، ولن تترك على هذا).([127]) فلم تكن المعارضة أن تحل نفسها وعملها لمجرد وصول عمر بن عبد العزيز لسدة الحكم كما يتصوره الريس والعثمان، فعدل عمر موجود في حكمه والمعارضة موجودة بعملها وتتربص لمآلات الأمور، ولذا عندما توفي عمر بن عبد العزيز هرب قيادات من المعارضة من السجن خشية بطش بني أمية، ومنه يزيد بن المهلب الذي حبسه عمر بن عبد العزيز على أموال عليه، فعندما مرض عمر هرب يزيد من السجن وكتب لعمر يقول له معتذرا: (إني والله ما خرجت من سجنك إلا حين بلغني مرضك، ولو رجوت حياتك ما خرج).([128]) ثم خرج يزيد بن المهلب على يزيد بن عبد الملك واستولى على البصرة وأقام فيها العدل، وكان النضر بن أنس بن مالك يحث على بيعته ويقول: (يا عباد الله ما تنقمون من أن تجيبوا إلى كتاب الله وسنة نبيه، فوالله ما رأينا ذلك ولا رأيتموه منذ ولدتم إلا هذه الأيام من إمارة عمر بن عبد العزيز. فقال الحسن: والنضر أيضا قد شهد. ومر الحسن بالناس وقد نصبوا الرايات، وهم ينتظرون خروج يزيد، وهم يقولون: تدعونا إلى سنة العمرين).([129])

فقولهم بأنّ د. حاكم يثني على من يخرج على خلافة عمر بن عبد العزيز فهذا من التضليل، ومثل ذلك قولهم إنّ الدكتور حاكم (يثني على الخميني وأئمة طهران ويصفهم بالعدول).([130])وقولهم: (ابن عبيسان يمجد أعداء الصحابة كأئمة الثورة الإيرانية ويصفهم بالعدول).([131])

والرد على هذا الكلام من وجوه:

أولا: ذكر الدكتور حاكم ثورة الشعب الإيراني في موضعين من كتابه الحرية، وكانا في سياقين مختلفين:

 الأول: في نقده لمقولة (الخروج شرّ) فأثبت الشيخ بالتجربة التاريخية أنّ كثيرا من الشعوب التي ثارت تغير حالها للأفضل؛ ومن تلك الشعوب بعض الشعوب الأوربية والشعب الإيراني.

الثاني: في سياق نقده للحركات الإسلامية، وبيان سبب عدم وصولها لأهدافها التي من أجله قامت، سواء التي وصلت للسلطة أم لم تصل.

فضرب الشيخ الأمثلة لذلك من تاريخنا الإسلامي، والأمم الكافرة، والثورات المعاصرة التي أسقطت الظلم والاستبداد وتحررت من عبوديتها، وكيف تغير حالها وأنها نهضت وتطورت وخرجت من التخلف وظهر العدل فيما بينهم، وهذا مالم يقع للشعوب التي ظلت على حالها.

ومن هذه الشعوب التي أسقطت الظلم والاستبداد بثورة شعبية الشعب الإيراني، وما حصل لهم بعد ذلك من عدل وحرية، مالم تكن في عهد الشاه والنظام الملكي الاستبدادي، فأقاموا النظام السياسي الذي يشارك فيه الشعب باختيار حكومته ورئيسه ويحاسبه، وحصول التداول السلمي للسلطة دون مصادرة حق الشعب، وقد استطاعت الثورة أن تجعل من الدولة قوية مستقلة في قرارها السياسي والعسكري.

ثانيا: حديث الدكتور حاكم هو عن الشعوب وثورتها وليس عن الأنظمة والحكومات وسياستها التي قد تخالف أهداف الثورة وهو ما جرى في إيران، فقد شارك في الثورة على الشاه الجميع حتى أهل السنة؛ وذلك لطغيانه وظلمه، ونجحوا في إسقاطه في ثورة شعبية شارك فيها كل الشعب الإيراني، وأثبتت بذلك قدرة الشعوب على التغيير، وأما النظام الجديد فقد ذكر الدكتور حاكم أن نظام ولاية الفقيه لا يمت للنظام السياسي الإسلامي بصلة، وذلك عندما ضرب مثال الثورة الإيرانية في الحرية قال في الحاشية ما نصه: (وهذا مقارنة بين وضع الجمهورية الإيرانية الإسلامية ووضع الجمهوريات والملكيات الأخرى في العالم الإسلامي، وإلا فما زال الطريق طويلاً أمام الجمهورية الإسلامية في إيران، إذ ما زالت تعاني من إشكالية الطائفية وإشكالية ولاية الفقيه التي لا أساس لها في النظام السياسي الإسلامي الذي يقوم على الشورى في كل ما لا نص فيه).([132])

ثالثا: الدكتور حاكم ذكر في السياق ذاته الدول التي ثارت على الملكيات وتغير حالها ومنها بعض الدول الأوربية النصرانية فهل تقولون إنّ د. حاكم يزكي قادة النصارى والصليب أيضا!

رابعا: وصف الدكتور حاكم حصول العدل للشعب الإيراني الذي حصل لهم بالثورة مما لم يكن قبلها هذا ليس تزكية لهم، فالعدل ضد الجور ونقيضه وليس العدل بمعنى التزكية والاستقامة، فهناك فرق بين وصف العدل والانصاف الذي هو ضد الظلم والذي قد يقوم بين غير المسلمين، ووصف العدالة والعدول بمعناه الاصطلاحي عند الفقهاء والمحدثين والأصوليين والذي ينافي الكفر والفسوق، فلا تطلق إلا على من توفر فيه شرط الإسلام ووصف بالصلاح والفضل واجتناب المحرمات والبدع،  فالدكتور حاكم يصف أحوال الشعب الإيراني بعد الثورة وأنه تحقق عندهم عدل كما الشعب الأمريكي والفرنسي!

فاستبدلوا كلمة عدل فصارت عدول؟ واستبدلوا كلمة الشعب الإيراني فصارت حكام طهران!

وهذا من الافتراء والتلبيس ليثبتوا أنّ الدكتور حاكم المطيري يثني على حكام إيران، كما زعموا أنه يؤيد الخروج على عمر بن عبد العزيز!

ومثل هذه العبارات معروفة عند أهل العلم ومن ذلك قول ابن تيمية: (إنّ الله يقيم الدولة العادلة وان كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وان كانت مسلمة ويقال الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام وذلك أنّ العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق ومتى لم تقم بالعدل لم تقم وان كان لصاحبها من الإيمان ما يجزي به في الآخرة).([133])

فهل تقولون إن ابن تيمية يزكي الكفار ويعدّلهم؟

ومثله قول ابن جرير وابن كثير عن الملك الفارسي المشرك لهراسب قال ابن كثير: (وذكر ابن جرير أنّ لهراسب كان ملكا عادلا سائسا لمملكته قد دانت له العباد والبلاد والملوك والقواد، وأنه كان ذا رأي جيد في عمارة الأمصار والأنهار والمعاقل).([134])

فهل كان هذان العالمان يزكيان هذا الملك المشرك ويصفانه بالعدالة؟

قال ابن ريس في استدراكه السبعين: (قال الدكتور حاكم ذاكرا أسباب اعتقاد عقيدة الصبر على جور الحاكم: " ومن الأسباب أيضا شيوع روح الجبر من جهة والإرجاء من جهة، بشيوع المذهب الأشعري الذي يتضمن عقيدتي الجبر: وهو أنّ الإنسان غير فاعل لأفعاله على الحقيقة،  بل على سبيل المجاز) ثم قال ابن ريس: (هذه سخافة فاضحة خلاصتها: أنّ عقيدة الصّبر على جور الحاكم المسلم الظالم لم تظهر إلا بعد الأشاعرة، وهذا كذب ودجل...قاتل الله الهوى كيف يردي صاحبه المهالك، ويجعله يهرف بما يضحك عليه الصبيان) ثم قال: (ذكر هذه المسألة أئمة السنة قبل خروج الأشاعرة، وحكوا عليها إجماع أهل السنة؛ كالإمام أحمد وابن المديني؛ وقد تقدم بعضه. وإنّ من قرأ هذه السخافات والترهات علم قدر الهوى الذي عند حاكم العبيسان، وعلم قدر استخفافه بقرائه).([135])

يحاول ابن ريس -كعادته- أن يضلل القراء ويوهمهم أنّ د. حاكم يحكم على من يرى عدم الخروج على أئمة الجور أنه على عقيدة المرجئة والمتكلمين وأنه قول محدث، وهذا من التضليل والتزييف،  فكلام د.حاكم في غاية الوضوح والذي لم يستطع ابن ريس أن يناقشه إلا بهذا التضليل وهذا التزييف، فكلام الدكتور حول الفصل الثاني من الكتاب، وهو العهد المؤول، بعد أن ذكر العهد المنزل،  وذكر أهم مراحله التي مر بها وهي كالتالي:

  1. مصادرة حق الأمة في اختيار الحاكم.
  2. مصادرة حق الأمة في المشاركة والشورى.
  3. غياب دور الأمة في الرقابة على بيت المال.
  4. تراجع دور الأمة في مواجهة انحراف السلطة وظلمها.

ثم ذكر الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع وهي كالتالي:

  1. نظرة أصحاب هذا الخطاب إلى الحوادث التاريخية بنظرة جزئية.
  2. خلطهم بين مفهوم الخروج السياسي ومفهوم الخروج العقائدي.
  3. شيوع أحاديث الفتن دون فهم لمعناها الصحيح.
  4. شيوع الروح الفردية بسبب الفهم الخاطئ لأحاديث اعتزال الفتن.
  5. شيوع روح الجبر من جهة والإرجاء من جهة أخرى.
  6. الغلو في تعظيم طاعة السلطة.([136])

وقد فصل د. حاكم القول تحت كل بند من هذه البنود من الأدلة وأقوال أهل العلم، ثم ذكر خطورة هذا الخطاب على المستوى الاستراتيجي للأمة فقال: (وبهذا دخل الخطاب السياسي الفقهي مرحلة جديدة، قام كثير من الفقهاء فيها بتأويل النصوص لإضفاء الشرعية على الواقع وترسيخه... فما أن شاع هذا الخطاب السياسي المؤول ـ الذي أضفى على السلطة هالة من القدسية حتى بلغت أوجها في انحرافها واستبدادها ـ حتى حلت الكارثة بالأمة، وإذا بالغزو التتاري وبالجيوش الهمجية تسقط عاصمة الدولة الإسلامية سنة 656هــ في أكبر كارثة عرفها المسلمون في تاريخهم، وكذا ما حصل في الأندلس وفي غيرها من الأقاليم، ثم انتهى أمر الأمة إلى السقوط تحت سيطرة الغرب الصليبي، بسبب غياب دور الأمة وفساد الأنظمة، وشيوع هذا الخطاب السياسي المؤول الذي يضفي الشرعية على وجودها، بل وحمايتها، مهما بلغت في فسادها وتفريطها بمصالح الأمة، حفاظًا على مصالح عروشها؟!

لقد نظر أصحاب هذا الخطاب المؤول إلى حركات الاحتجاج السياسي نظرة سلبية من زاوية واحدة، هي ما يحدث بسببها من فتنة قد يذهب بها بعض النفوس والأموال، دون نظر إلى ضرورة قيام مثل هذه الحركات التي تحول بين السلطة وبين الظلم والاستبداد والانحراف الذي قد يؤدي إلى سقوط الأمة كلها تحت سيطرة عدوها الخارجي؟!

وهذا ما حصل فعلا، فلما وقع المحذور إذا الأمة لا تملك القدرة على الدفاع عن نفسها، بعد أن تم تحطيمها واستلابها حقها، وبعد أن أصبحت غائبة تعيش على هامش أحداث الواقع، تنتظر من السلطة أن تقوم عنها بكل شيء حتى في تقويمها نفسها ونقدها لسياساتها).([137]) وقال: (وإذا اجتمعت كل هذه النظريات (الإرجاء، والجبر، الاعتزال، والزهد، والرضا بالبلاء، وعدم مقاومته إلا بالدعاء)، فلن تكون النتائج إلا على هذا النحو الذي تعيشه الأمة الإسلامية منذ قرون، فلم يكن سقوطها تحت أقدام جيوش المغول إلا نتيجة منطقية طبيعية لشيوع مثل هذه النظريات التي تحمل في طياتها بذور الموت والفناء لأي حضارة إنسانية تروج فيها، ولأي أمة تدين بها وتعتنقها).([138])

لقد صدق الشيخ حاكم، وهذا ما نراه اليوم رأي العين، فأربع مئة مليون عربي لا يستطيعون أن يغيثوا المستضعفين من الرجال والنساء والأطفال من المجازر في العراق وسوريا وفلسطين وأركان وغيرها من بلاد المسلمين؛ بسبب أنّ هذه الحكومات التي شكلها العدو ويدير شؤونها - والتي يمجدها ابن ريس ويدعو لطاعة أوامرها - تمنع هذه الشعوب من نصرة إخوانهم!

وأما مسألة الخروج التي يدندن حولها ابن ريس فقال د. حاكم ما نصه: (وهكذا تحولت القضية من قضية خلافية اجتهادية إلى قضية إجماعية قطعية؟! ومن مسألة فقهية إلى أصل عقائدي يُستدل عليه بمثل هذه الإسرائيليات).([139]) فأشار إلى أنها مسألة اجتهادية، وأنّ من أخذ بقول المنع من الخروج لا يعني أنه أصبح من سدنة الظلمة والطغاة كما يصوره الريس، ومن هؤلاء الإمام أحمد، فقد خالف علماء بلده ممن رأى الخروج على الواثق عندما أظهر القول بخلق القرآن، ورأي الإمام أحمد أنّ هذه المسالة من المسائل العلمية الخاصة، ولم يكفر من قال بها، ولم ير الخروج عليهم، إلا أنه مع ذلك قاوم السلطة ورد باطلها ولم يسلم لها، وقد عذر من خرج على المأمون بل وأثنى عليهم كوصفه أحمد بن نصر الخزاعي بالشهيد.

أما تأثير العقائد الكلامية على هذه التراجع في العهد المؤول فمعلوم، فقد قال قتادة: (إنما أحدث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث).([140]) فظهور الإرجاء وروح التسليم كان بعد هزيمة القراء والعلماء مع ابن الأشعث وخاصة في البصرة، قال محمد بن علي بن عبد الله بن العباس: (أما البصرة وسوادها فعثمانية ترى الكف، تقول: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل).([141]) ومن صور الجبر التي ذكرها د. حاكم والتي ظهرت في العهد المؤول خدمة للسلطة، ما جاء عن عطاء بن يسار ومعبد الجهني أنها جاءا إلى الحسن البصري يسألانه ويقولان: (يا أبا سعيد، إن هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون الأموال، ويفعلون ويفعلون، ويقولون: إنما تجرى أعمالنا على قدر الله. فقال: كذب أعداء الله).([142])

وقد ظهر الغلو في تعظيم السلطة والإمام مما لم يعرف في العهد السياسي المنزل الذي يقول فيه الخليفة الراشد أبو بكر الصديق للأمة: (أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم).([143]) قال ابن تيمية مبينا منزلة الإمام في العهد المنزل: (قال الصديق: أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم وغضب مرة على رجل فقال له أبو بردة: دعني أضرب عنقه فقال له: أكنت فاعلا قال: نعم. فقال: ما كانت لأحد بعد رسول الله ... وكذلك عمر بن الخطاب كان يقر على نفسه في مواضع بمثل هذه فيرجع عن أقوال كثيرة إذا تبين له الحق في خلاف ما قال ويسأل الصحابة عن بعض السنة حتى يستفيدها منهم ويقول في مواضع: والله ما يدري عمر أصاب الحق أو أخطأه. ويقول: امرأة أصابت ورجل أخطأ).([144])

فبعد هذا شاع الغلو في تعظيم منصب الإمام والغلو في طاعته حتى قيل إنه يطاع في كل شيء وأنّ الله يتجاوز عن الإمام ولا يحاسبه! قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كثير من أتباع بني أمية - أو أكثرهم - كانوا يعتقدون أن الإمام لا حساب عليه ولا عذاب، وأن الله لا يؤاخذهم على ما يطيعون فيه الإمام، بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء، والله أمرهم بذلك. وكلامهم في ذلك معروف كثير.

وقد أراد يزيد بن عبد الملك أن يسير بسيرة عمر بن عبد العزيز، فجاء إليه جماعة من شيوخهم، فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو، أنه إذا ولى الله على الناس إماما تقبل الله منه الحسنات وتجاوز عنه السيئات. ولهذا تجد في كلام كثير من كبارهم الأمر بطاعة ولي الأمر مطلقا، وأن من أطاعه فقد أطاع الله. ولهذا كان يضرب بهم المثل، يقال: " طاعة شامية " وحينئذ فهؤلاء يقولون: إن إمامهم لا يأمرهم إلا بما أمرهم الله به، وليس فيهم شيعة، بل كثير منهم يبغض عليا ويسبه.

ومن كان اعتقاده أن كل ما يأمر الإمام به فإنه مما أمر الله به، وأنه تجب طاعته، وأن الله يثيبه على ذلك، ويعاقبه على تركه لم يحتج مع ذلك إلى معصوم غير إمامه... بل كثير من الناس يعتقدون أن من يطيع الملوك لا ذنب له في ذلك، كائنا من كان، ويتأولون قوله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}).([145]) وقال ابن تيمية : (وأما غالية الشاميين أتباع بني أمية، فكانوا يقولون: إن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات، وربما قالوا: إنه لا يحاسبه).([146])

ولشيوع هذا الأمر بأنّ الخلفاء ليس عليهم حساب، فقد كان خلفاء بني أمية يسألون عن هذا الأمر، (فسأل الوليد بن عبد الملك عن ذلك بعض العلماء، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، أنت أكرم على الله أم داود، وقد قال له: {ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب}. وكذلك سؤال سليمان بن عبد الملك عن ذلك لأبي حازم المدني).([147])

ونقل ابن كثير عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: (لما ولي يزيد بن عبد الملك قال سيروا بسيرة عمر، فمكث كذلك أربعين ليلة، فأتي بأربعين شيخا فشهدوا له أنه ما على الخلفاء من حساب ولا عذاب).([148]) وقد سأل المأمون النضر بن شميل عن الإرجاء فقال: (دين يوافق الملوك).([149])

إلا أنّ هذا الغلو في السلطة كان في أئمة المسلمين في ظل الخلافة وراية الإسلام، فلا يقاسون بسدنة الطغاة اليوم في العهد المبدل – كابن ريس- الذين يروجون وجوب الطاعة لمن جاء بهم الاحتلال ومن أعلنوا موالاة الكافرين على المسلمين واستباحوا ما حرم الله وأعرضوا عن حكم الإسلام!

فظهر بذلك أنّ استدراك ابن ريس هذا ليس إلا سخافات مبنية على الترهات والتضليل والجهالات!

وللحديث بقية مع الثورة العربية وأباطيل الجماعات الوظيفية!

 


 


( ([1]ص208.

( ([2]ص 39.

( ([3]ص152.

4)) مراتب الإجماع ص178.

( ([5]شرح مسلم للنووي (12/229).

( ([6]العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (8/76).

( ([7]شرح مسلم (12/229).

( ([8]المصدر السابق.

( ([9]ص153.

( ([10]تهذيب التهذيب (2/288).

)6) فتح الباري (12/301).

( ([12]فتح الباري (13/8).

( ([13]ص41،    43.

2))شرح البخاري (5/128).

( ([15]شرح البخاري (1/125).

)4) يعني شيخ الإسلام هنا كل من ولي أمر المسلمين فتشمل الإمام والقاضي وغيرهم وليست حصرا على الحاكم كما في الاصطلاح المحدث!

)5) منهاج السنة (3/390).

)6) مجموع الفتاوى (29/196).

( ([19]العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (8/78).

( ([20]التمهيد (24/313).

( ([21]نسبة لعثمان بن عفان رضي الله عنه.

( ([22]المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي (7/56 ).

( ([23]تفسير القرطبي (16/339).

( ([24] الحسن البصري.

( ([25]يزيد بن نعامة الضبي أبو مودود البصري التابعي لا صحبة له، وقد حكى البخاري أن له صحبة فغلط. تهذيب الكمال.

( ([26]الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن أبي الدنيا ص39.

( ([27]الآداب الشرعية (1/157).

( ([28]آثَار المعلمي (5/114).

( ([29]الحرية أو الطوفان ص202.

( ([30]ص395.

( ([31]ص187.

( ([32]ص153.

5)) مراتب الإجماع ص178.

(6) ص161.

( ([35]ص162.

( ([36]البداية والنهاية (8/151).

( ([37]البداية والنهاية (8/151) وتاريخ الطبري (5/475) وأنساب الأشراف (5/304) الكامل في التاريخ (3/200).

( ([38]تاريخ الطبري (5/497).

( ([39]البداية والنهاية (6/234).

( ([40]تاريخ الطبري (5/497).

( ([41]تاريخ الطبري (5/501) والمنتظم لابن الجوزي (6/23).

)1) الاستذكار (5/16).

2)) فتح الباري (12/301).

( ([44]مقطع صوتي للشيخ ابن باز في اليوتيوب بعنوان (الإمام ابن باز : عبد الله بن الزبير خرج على يزيد).

 https: //www.youtube.com/watch?v=yr6uEzPNeJU

 ( ([45]مقطع صوتي للشيخ ابن عثيمين في اليوتيوب بعنوان (الشيخ ابن عثيمين : الرد على من يستدل بخروج عبد الله بن الزبير).

https: //www.youtube.com/watch?v=8jMCFlrxmAQ

( ([46]تحفة المجيب على أسئلة الحاضر والغريب ص212.

( ([47]تاريخ الطبري (5/493)، تجارب الأمم وتعاقب الهمم (2/88)، سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي (3/205).

( ([48]المنتظم (6/16).

( ([49]صحيح البخاري (4167).

( ([50]البداية والنهاية (8/242).

( ([51]البداية والنهاية (11/632).

( ([52]تاريخ الإسلام (5/23).

( ([53]الإصابة في تمييز الصحابة (1/675).

( ([54]تاريخ الإسلام (5/146).

( ([55]تقريب التهذيب ص540.

( ([56]تقريب التهذيب ص536.

( ([57]الإصابة (2/23).

( ([58]التقريب ص409.

( ([59]البداية والنهاية (8/159).

( ([60]الكامل في التاريخ (3/132).

(13) سير أعلام النبلاء (3/295).

(1( سير أعلام النبلاء (3/298).

(2) البداية والنهاية (8/160).

( ([64]البداية والنهاية (8/159).

( ([65]سير أعلام النبلاء (3/293).

( ([66]المنتظم (7/209).

( ([67]الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبد البر (1/463).

( ([68]تاريخ ابن خلدون ص270.

( ([69]فتح الباري (12/286).

(3) تاريخ الطبري (5/413) والبداية والنهاية (8/170) سير أعلام النبلاء (4/366).

( ([71]الفرقان ص71.

( ([72]ص380.

( ([73]ص153.

( ([74]سير أعلام النبلاء (4/321).

 ([75])تاريخ الطبري (3/635)

 ([76])الطبقات الكبرى (6/263).

 ([77])سير أعلام النبلاء (4/280).

 ([78])تاريخ الطبري (3/635).

([79]) المصدر السابق.

( ([80]ص175.

)9) ص177.

( ([82]رواه مسلم (78).

([83]) أخرجه مسلم (80) وأحمد (4363) وابن حبان (1/403) واللفظ له وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان.

3)) الفصل (4/132).

)1)الفصل (4/132).

2)) جواب أهل السنة النبوية ص70.

( ([87]منهاج السنة (4/536).

4)) التنكيل (1/188).

5)) نيل الأوطار (7/208).

( ([90]منهاج السنة (4/529).

)2) ص 175 ــــــ177.

( ([92]ص379.

(4) http: //islamancient.com/play.php?catsmktba=102094

 (5)سير أعلام النبلاء (7/361).

 (6)منهاج السنة (3/12).

(7) الأعلام للزركلي (2/193).

 (8)الفرق بين الفرق ص25.

(9) سير أعلام النبلاء (7/363).

 (10)سير أعلام النبلاء (7/367).

( ([100]تهذيب التهذيب (2/285).

( ([101]سير أعلام النبلاء (7/364).

( ([102]سير أعلام النبلاء (7/364).

( ([103]ص39.

( ([104]ص45.

( ([105]شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم اللالكائي (1/170).

( ([106]الإبانة الصغرى ص315.

( ([107]تاريخ الإسلام للذهبي (13/444).

( ([108]تاريخ ابن الأثير (8/129).

( ([109]تسجيل في اليوتيوب لفوزي الأثري. https: //www.youtube.com/watch?v=u7U3aNc2KqA

 

( ([110]منهاج السنة (4/151).

( ([111]الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني ص2697.

( ([112]فتاوى نور على الدرب (8/195).

( ([113]ص372.

( ([114]ص373.

( ([115]الغوغائية ص50.

( ([116]الحرية أو الطوفان ص70.

( ([117]الحرية أو الطوفان ص72.

( ([118]الغوغائية ص197.

( ([119]تاريخ الإسلام (3/495).

( ([120]الحرية أو الطوفان ص158.

( ([121]تاريخ الإسلام للذهبي (3/495).

( ([122]البداية والنهاية (9/224).

( ([123]العلل لأحمد رواية ابنه عبد الله (1/186).

( ([124]الطبقات الكبرى (5/305).

( ([125]الأعلام للزركلي (5/98)

( ([126]المنتظم لابن الجوزي (7/33).

( ([127]المنتظم لابن الجوزي (7/34).

( ([128]البداية والنهاية (9/216).

( ([129]الكامل في التاريخ (4/127).

( ([130]الغوغائية ص14.

( ([131]الغوغائية ص248.

( ([132]الحرية أو الطوفان ص340.

( ([133]مجموع الفتاوى (28/46).

( ([134]البداية والنهاية (2/51).

( ([135]ص 392،    393.

( ([136]الحرية أو الطوفان 107 ــــــــ 176.

( ([137]الحرية أو الطوفان ص166.

( ([138]الحرية أو الطوفان ص176.

( ([139]الحرية أو الطوفان ص165.

( ([140]السنة لعبدالله بن أحمد (1/319) مجموع الفتاوى (7/395).

( ([141]المنتظم (7/56).

( ([142]المعارف لابن قتيبة ص441.

( ([143]تاريخ الطبري (3/210) وقال ابن كثير في البداية والنهاية (5/269) إسناده صحيح.

( ([144]مجموع الفتاوى (35/123).

( ([145]منهاج السنة (6/430ــــــ 431).

( ([146]منهاج السنة (2/477).

( ([147]منهاج السنة (2/478).

( ([148]البداية والنهاية (9/244).

( ([149]البداية والنهاية (10/303).

 


رابط مختصر
الرابط المختصر انقر هنا

الثورة العربية وأباطيل الجماعات الوظيفية كتاب عبد العزيز الريس نموذجا الحلقة السادسة

ترك تعليق
التعليقات

الثورة العربية وأباطيل الجماعات الوظيفية كتاب عبد العزيز الريس نموذجا الحلقة السادسة