الرسالة السابعة  (العقيدة السياسية شروطها وضرورتها وخطورتها)

الرسالة السابعة (العقيدة السياسية شروطها وضرورتها وخطورتها)

  • بواسطة مؤتمر الأمة --
  • الخميس 15 جمادى الثانية 1434 00:00 --
  • 0 تعليقات

الرسالة السابعة
(العقيدة السياسية شروطها وضرورتها وخطورتها)([1])

 

الحمد لله وكفى وصل اللهم على النبي المصطفى وبعد:

سؤال يتكرر طرحه دائما: أين تكمن أزمة الحركات الإسلامية؟

وأين الخلل في أدائها؟

ولماذا لم تحقق مشروعها بعد ثمانين سنة من وجودها؟

وما سبب حدوث المراجعات الجذرية المتكررة في أفكارها وتصوراتها في كل مرحلة؟

وستحاول هذه الرسالة الإجابة عن هذه الأسئلة المشروعة باختصار، وكشف اللثام عن هذه الأزمة، مع التقدير الكامل لكل ما قامت به هذه الحركات من تضحيات وإصلاحات على المستوى الروحي والاجتماعي والثقافي لربط الأمة بالإسلام، إذ النقد مقصور على عجزها عن تحقيق هدفها السياسي وهو استئناف الحياة الإسلامية من جديد، واستعادة الخلافة، وإقامة أحكام الإسلام:

مقدمة بين يدي الموضوع:

كان ظهور الحركات الإسلامية التقليدية استجابة طبيعية، وردة فعل لسقوط الخلافة الإسلامية العثمانية، وسيطرة الاستعمار الغربي على أقاليمها، في مطلع القرن العشرين؛ فجاءت هذه الحركات لتملأ بعض الفراغ، ولتقوم بجزء من فروض الكفايات التي كانت تقوم بها الخلافة في الإسلام، إلا أنها وبعد عقود من العمل الدعوي أصبحت جزءا من الواقع الذي جاءت لتغييره، وتماهت معه، أو اعتزلته؛ فصارت تتأثر به ولا يتأثر بها، ووصل الحال بها أن صارت في نظر بعض المفكرين عبئا ثقيلا، وعائقا أمام الإصلاح المنشود، وأنه يجب حلها؛ كما دعا إلى ذلك الدكتور عبد الله النفيسي!

وهي بهذا شبيهة إلى حد كبير بظهور المذاهب الفقهية، التي ظهرت استجابة لتطور المجتمع الإسلامي على المستوى المعرفي والعلمي، وحاجته للفقهاء الذين يتولون شئون القضاء، ثم ما لبثت أن تحولت هذه المذاهب إلى عبء كبير على وحدة المجتمع الإسلامي، حيث أصبحت سببا من أسباب ظهور التقليد الذي أدى إلى الجمود الفقهي؛ كما صارت سببا من أسباب تشرذم المجتمع، وحدوث ما حدث من صراع مذهبي في عصور الضعف والانحطاط والعصبية، وكان وراء ذلك الأوقاف التي كان يوقفها الأمراء والأغنياء على المذاهب؛ وهو ما جعلها تتصارع وتشتغل في المحافظة على هذه المكاسب لتعزيز نفوذها وانتشارها، ومواجهة المخالفين لها!

فقد صارت بعض هذه الحركات اليوم ثقيلة بما لديها من ثروات ومكتسبات، وعاجزة عن التخلي عن هذه الإنجازات لصالح التغيير الذي يحتاج إلى تضحيات قد تفقد بسببه نفوذها ومكتسباتها!

ومن ينظر إلى واقع البلدان العربية خاصة، يجد الشواهد على صحة هذا الرأي، ففي أكبر بلد عربي نرى الشارع المصري يدفع باتجاه التغيير والإصلاح السياسي بكل ألوان الطيف، بينما نجد أكثر الطيف السلفي يرفض المشاركة بهذا الحراك ضد ولي الأمر ديانة، والطيف الحركي يرفضه سياسة!

ولا يحتاج النظام لتحييدها أثناء الصراع إلا إلى عقد صفقة مع هذه الحركة أو تلك؛ كترخيص بعض أعمالها أو منحها حق الحصول على مقاعد في البرلمان!

وقد وصل الحال ببعض قيادات العمل الإسلامي ادعاء أن توريث الحكم هو حق لولي الأمر، وأن هذا له شبه بولاية العهد المشروعة عند أهل السنة؟!

بينما يتحفظ أكثر الطيف الحركي عن المشاركة في حركة الاحتجاج الشعبية، ولا يرى مشكلة في أزمة التوريث؛ لأن الدستور المصري يكفل حق ابن الرئيس في الترشيح، ليمسك هذا الطيف العصا من الوسط!

ويقف الطيف الصوفي كله تقريبا خلف الحزب الوطني الحاكم!

فإذا الشعب المصري يواجه حقيقة سياسية هي أن التيار الإسلامي بكل ألوان الطيف، وبما له من رصيد شعبي؛ قد أصبح سلبيا تجاه التغيير؛ بل أصبح عائقا أمام تطلعاته نحو الإصلاح والتغيير، وأنه يقف أمام إرادة الشارع سواء وقف هذه المواقف سياسة أو ديانة!

وكذا الشأن في العراق وأفغانستان حيث شاركت بعض الحركات الإسلامية التاريخية في حكومات الاحتلال، ووقفت معها، وعززت نفوذها، ووقفت ضد قوى المقاومة المشروعة للاحتلال عند كل شعوب العالم، ولم تخرج تلك الحركات الإسلامية عن دائرة التيار الإسلامي؟!

وكذا الحال في الجزائر؛ فقد وقفت حركات إسلامية مع النظام العسكري القمعي ضد خيار الشعب الجزائري الذي انتخب جبهة الإنقاذ، فإذا قياداتها تقف مع النظام العسكري وقمعه ضد الشعب وحريته، لتدخل الجزائر في نفق مظلم مجهول منذ ذلك اليوم إلى الآن!

كما وقفت الحركات ذاتها في الخليج مع حكوماتها التي تورطت في حرب احتلال العراق؛ حتى خرج من يقول بأن حرب أمريكا على العراق هي حرب تحرير لا حرب احتلال؟!

وكانت أكبر الشركات التي قدمت الدعم اللوجستي لجيوش الاحتلال، هي شركات لقيادات في هذه الحركات، الذين أثروا ثراء فاحشا جراء العقود مع الجيش الأمريكي!

وبالإمكان ملاحظة كل هذه الممارسات في كل بلد؛ فهي لا تجد حرجا في الوقوف مع الحكومات والتحالف معها؛ مهما كانت فاسدة أو مستبدة، على حساب مصالح الشعوب وحقوقها وحريتها وهويتها ودينها، ولا تجد حرجا في الوقوف مع الاحتلال حيثما احتل بلدا عربيا أو إسلاميا؟!

وهذه الحركات وبتناغم ذكي مع الأنظمة القائمة لا تظهر بمظهر الحليف للنظام حتى لا تخسر شعبيتها ورصيدها من الشارع؛ بل تظهر بمظهر المعارضة، وقد تتعرض للتضييق من النظام؛ كعربون للمحافظة على ثقة الشارع، إلا أنها تظل معارضة محافظة لا تسعى لتغيير جذري للنظام، بل تسعى للإصلاح الجزئي؛ ولهذا ما إن تضطرب الأوضاع السياسية حتى تقف خلف النظام وتدعمه في وجه حركات التغيير، وبكل قوة!

ثم لا تعجز هذه الحركات عن تبرير كل ممارساتها وتسويغها، بل وشرعنتها باسم الإسلام، في كلا الحالين المتناقضين، فإن وقفت ضد النظام؛ فلأنه كافر طاغوت، وإن تحالفت معه؛ فلأنه ولي أمر!

وإن قاومت الاحتلال؛ فلأنه جهاد واجب وفرض عين، وإن تحالفت معه وتعاملت معه؛ فلأن للضرورة أحكامها، وللمصلحة قواعدها الشرعية التي لا يفقهها إلا العالمون!

أي أن القيمة الأخلاقية باتت مفقودة تماما في خطابها وممارساتها هذه، وطغت عليها القيمة المصلحية، وكأنه لا حقيقة أخلاقية مطلقة هنا، بل هناك معيار نسبي للقيم، فالخيانة عند كل شعوب العالم على اختلاف أديانها كالوقوف مع الاحتلال والعمل معه وتحت ظله؛ تصبح لدى بعض هذه الحركات قضية نسبية اجتهادية، فقد تكون الخيانة نفسها عملا نبيلا؛ بل واجبا دينيا يجب ممارسته، وقد تكون ردة وكفرا!

وكذا الوقوف مع الظلم والطغيان، ليس له معيار قيمي ثابت، بل هو معيار نسبي؛ تتحول فيه القيم وتتبدل بحسب المصالح والضرورات... إلخ!

هذا في الوقت الذي يحسم القرآن هذه القضية بشكل قطعي حدي؛ فبالنسبة للظلم: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}، وبخصوص التعامل مع العدو: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}!

وهذه التناقضات تقع من هذه الحركات بلا وعي ولا قصد، بل قد يكون عنصر الإخلاص موجودا، وإنما تصدر منها هذه الممارسات والسلوكيات لخلل في وعيها لذاتها ولمشروعها وأهدافها؛ فهي تتصور أن ما تقوم به هو ما يفرضه عليها الإسلام في كلا الحالين، وفي كلا الموقفين المتناقضين!

إنها إشكالية تأويل النص، وقابلية الدين للتأويل!

وهذه الظاهرة السياسية التي تعيشها الحركات الإسلامية تحتاج إلى بحث في جذور الأزمة وتحليلها، ومعرفة السبب الذي يجعل الحركة الإسلامية تقف الموقف ونقيضه، دون أن تجد مشكلة، ودون أن يخرجها ذلك من كونها حركة إسلامية، في الوقت الذي لا يحدث ذلك لدى القوميين أو الشيوعيين أو الليبراليين إلا حين يتخلون عن توجهاتهم، فيصبح الشيوعي مثلا ليبراليا أو قوميا، أما أن ينتقل من الفكرة إلى نقيضها ويبقى في المنظومة السياسية نفسها يتمتع بكامل الانتماء إليها؛ فهذا لا يكاد يوجد على المستوى السياسي إلا عند الحركات الإسلامية، فهي تبقى إسلامية مهما حدث عندها من تحولات فكرية، أو تناقضات في المواقف السياسية؛ فالدين عندها يقبل كل رأي!

وهذا ما يلاحظ أيضا في خطاب العلماء والدعاة الإصلاحيين غير الحركيين، فهم ينتقلون من الرأي إلى النقيض؛ دون وجود محددات تمنع من مثل هذه التحولات التي قد تكون أحيانا جذرية؛ فالدين لديهم يقبل التأويل لينتقل الداعية من النقيض إلى النقيض!

ويعود السبب الرئيس في حدوث مثل هذه التناقضات إلى:

أولا: فقدان أكثر الحركات الإسلامية للعقيدة السياسية:

حيث تقوم النظريات والنظم السياسية - التي تحكم المجتمعات الإنسانية والدول - على أسس فلسلفية أو عقائدية تعد هي الروح لهذه النظريات والنظم السياسية، وحجر الزاوية التي تبني عليه مشروعية وجودها، وهي التي تبرر استمرارها، وتوجب التضحية من أجلها، وتمنحها البعد الأخلاقي الذي يخضع الأفراد لها، وهذه العقائد أسبق وجودا في عالم الفكر من النظم السياسية ذاتها، التي تأتي للواقع السياسي وتقوم بتشكيله بما يتوافق مع تلك العقائد؛ ولهذا فالواقع السياسي المشهود ما هو إلا انعكاس لصراع الأفكار، فالفكرة التي تفرض نفسها بقوة المؤمنين بها، وبقوة إيمانهم بها، وقدرتهم على التضحية من أجلها، هي التي تحكم، ولخطورة العقيدة وضرورتها لكل عمل وفعل إنساني؛ نجد القرآن يكرر أكثر من خمسين مرة {الذين آمنوا وعملوا الصالحات}، فالإيمان بالشيء يسبق العمل به ومن أجله، بل كل سلوك إنساني يعبر عن عقيدة يستبطنها الإنسان سواء أدركها أو لم يدركها!

فالصراع الفكري من أجل الحرية وحقوق الشعب وحقوق الإنسان في فرنسا؛ أثمر نظام الجمهورية الفرنسية الديمقراطية، الذي جاء انعكاسا للفكرة التي ألهبت مشاعر الجماهير الفرنسية، وحملتها على التضحية من أجلها في ثورة 1789م.

وكذا الصراع الفكري من أجل الحرية والاستقلال في أمريكا؛ أثمر النظام الأمريكي الليبرالي الرأسمالي بعد الثورة الأمريكية.

وكذا الشيوعية الماركسية كانت أسبق وجودا في عالم الفكر من النظام الماركسي اللينيني الذي حكم روسيا بعد الثورة البلشفية سنة 1917م، الذي جاء ليشكل واقع روسيا القيصرية وفق فلسفته العقائدية الجديدة؛ التي تؤمن بحكم البروليتاريا، وسلطة الطبقة العمالية، وبالاشتراكية الاقتصادية، وتأميم وسائل الإنتاج والمال العام؛ لكونها ترى بأن النظم السياسية الأخرى، سواء الملكية الإقطاعية التي يحكمها النبلاء، أو الرأسمالية البرجوازية التي يحكمها التجار والرأسماليون، ليست سوى مرحلة من مراحل تطور المجتمعات الإنسانية في صراعها المادي؛ حيث ينتهي الصراع بانتهاء أسبابه المادية، من خلال تحقق العدالة الاجتماعية، وزوال الطبقية، بتحقق المشاعية الاقتصادية؛ بناء على أساس فلسفي يؤمن بالمادية الجدلية، وبأن الوجود كله مادي، وليس وراءه شيء، فلا روح ولا إله ولا دين ولا قدر، وأن هذا الوجود ومظاهره تحركه المادة نفسها من خلال جدليتها وتناقضها، فالثلوج تذوب من الحالة الجامدة بحرارة الشمس لتتحول إلى ماء سائل، والماء يتبخر فيتحول إلى حالة غازية، والبخار يتكثف بالبرودة فيصبح ماء، وهكذا المادة التي جاء الإنسان منها من خلال الخلية البدائية الحية، حيث بلغت الحياة المادية أوجها بتطور الحياة إلى أن وجد الإنسان، ووجد الدماغ الذي هو العقل ذاته الذي هو شيء مادي، ثم وعى العقل وأدرك المادة من حوله، فوجدت الفكرة كمظهر من مظاهر تجليات المادة نفسها، والتي هي في حال تناقض دائم، واكتشف العقل قوانينها الجدلية، بما في ذلك الجدلية التاريخية في تطور المجتمع الإنساني، الذي كان مشاعيا، يسعد الإنسان فيه بالحياة الطبيعية، ثم بدأ يمتلك الإنسان الأرض، ثم بدأ يستخدم المالك أفرادا آخرين لا أرض لهم، كعبيد عنده في أرضه مقابل إطعامهم؛ فوجد بسبب تلك الحاجة المادية طبقة الإقطاع والإقطاعيين وطبقة الرقيق والعبيد، ثم احتاجوا لكثرة الفائض من إنتاج الأرض الذي هو جهد العبيد وكدحهم إلى بيعه لغيرهم، فنشأت التجارة بالتبادل للفائض، وظهرت الطبقة البرجوازية الوسيط بين صاحب الأرض من جهة، والمحتاج لنتاج الأرض من جهة أخرى، ثم من خلال الصراع بين الطبقة الإقطاعية التي تمتلك الأرض، والبرجوازية التي تمتلك وسائل الإنتاج وتحتكر التجارة، واحتياج كل منهم إلى اليد العاملة؛ خاصة بعد الثورة الصناعية في بريطانيا، بدأت الدعوة إلى تحرير العبيد من قبضة الإقطاع؛ ليتحولوا إلى عمال لدى الطبقة البرجوازية التي تحتاجهم في مصانعها، ثم أدرك العمال - بعد ازدياد أعدادهم وتشكلهم كطبقة مجتمعية كادحة بدل العبيد - أهميتهم وأن المال هو نتاج عملهم وجهدهم، وأن هناك فائض لقيمة عملهم يستحوذ عليه أرباب العمل دون أن يأخذوا هم عليه أجورهم، فبدأت تظهر الطبقة العمالية كقوة اقتصادية وسياسية من خلال النقابات العمالية، ومن خلال نضالها، وجدت أن الدين ما هو إلا وسيلة لتدجين العمال والشعوب، وتصبيرهم على المعاناة التي يعيشونها؛ ليستغل الرأسماليون جهدهم، ولهذا يجد الدين دعمه وتمويل كنائسه من رجال المال الذين يتحالف معهم لتخدير الشعوب لتحيا في واقعها حياة البؤس والجحيم، مكتفية بحلم الجنة بعد الموت؛ لينعم رجال السلطة والثروة بنعيم الحياة الدنيا؛ ولهذا يقوم الدين بتفسير كل ما يجري حولهم بأنه قضاء السماء ويجب الصبر عليه، مع أن الإنسان في الواقع هو الذي يصنع هذا الواقع، ويعيش ألم أعماله وكسله، فإذا ما أراد تغييره فسينجح من خلال الثورة على هذا الواقع، وليس الاستسلام له، والمصالحة معه، وأنه لا يمكن للعمال أن يغيروا واقعهم ما لم ينظموا أنفسهم ويتحدوا؛ ليصبح الحزب الشيوعي، هو وسيلتهم نحو الثورة والتغيير!

وقد وجدت الطبقة العمالية صحة هذه النظرية الفلسفية على أرض الواقع السياسي، حيث إنه ما إن آمن بها العمال في كل بلد حتى أسقطوا النظم الإقطاعية والبرجوازية، وصاروا هم الطبقة التي تحكم لأنها الطبقة التي تعمل وتنتج؛ فحكموا روسيا والصين وأوربا الشرقية إلى أمريكا اللاتينية... إلخ، ووجدوا أن الإنسان هو الذي يصنع قدره ويغيره، لا كما يصوره لهم رجال الدين المتحالفين مع البرجوازيين والرأسماليين!

وكذا النظم السياسية الديمقراطية؛ فهي أيضا تقوم على أسس عقائدية وفلسفية، تؤمن بأن الإنسان يولد حرا، وأن الحاجة إلى الاجتماع جعلت الأفراد في حاجة لتنظيم شئونهم، فتنازلوا عن بعض حريتهم وحقوقهم للسلطة التي يختارونها بإرادتهم، وفق عقد اجتماعي، حدث في أول مجتمع إنساني كانت فيه سلطة، غير أن السلطة لكونها مفسدة مستبدة بطبيعتها؛ أخذت تنتزع حقوق الأفراد شيئا فشيئا بدعوى مصلحة الجماعة؛ حتى أقامت السجون، وأراقت الدماء، ونصبت المشانق والمقاصل للمعارضين لاستبدادها؛ حتى تحولت السلطة إلى عدو ووحش كاسر يجب ترويضه، وإعادته إلى وظيفته، ومن ثم فالحرية الإنسانية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والدينية هي الأساس، وما السلطة سوى جهة تمثل الأفراد، وتشرف على تنظيم شئونهم، حتى لا تتعارض حرياتهم ومصالحهم، وقد تستند الليبرالية المثالية غير المادية إلى أسس دينية؛ كما في المسيحية البرتستانتية كحركة تحرر ديني!

وقد استطاعت أن تحدث هذه الفلسفة الليبرالية الديمقراطية ثورة كبرى في فرنسا وأوربا كلها؛ لتقيم مكان الأنظمة الملكية أنظمة سياسية ديمقراطية، واقتصادية رأسمالية، تؤمن للفرد حريته ليحقق ذاته، ويستمتع في حياته!

وقد كان الإسلام كنظام سياسي عقائدي أسبق في إحداث تغيير جذري للمجتمعات الجاهلية، وقد سبق قيام الدولة في المدينة ظهور العقيدة السياسية التي بشّر بها الخطاب القرآني والنبوي، وهي جزء من شمولية رسالة الإسلام؛ حيث جاء بنظرة للوجود والحياة والإنسان والمجتمع والعمل والمال والسلطة والدين غيرت وجه التاريخ الإنساني كله، فسقطت أمامه كل الإمبراطوريات آنذاك، وحرر شعوبها، وحقق العدل بينها، وأقام نظام سياسي يعبر عن عقيدته السياسية أصدق تعبير في عصر النبوة والخلافة الراشدة؛ وعليه:

فإن العقيدة السياسية هي مجموعة الأفكار والمبادئ والقيم - دينية كانت أو فلسفية - التي تحدد الموقف من الواقع السياسي، وتحكم له أو عليه، وتقدم تصورا عاما للنظام السياسي الذي يجب أن يحكم الدولة، وطريقة سياسته للمجتمع، وعلاقة السلطة بالأفراد وحقوقهم وحرياتهم.

وكما أن العقيدة السياسية قد تأتي بالسلطة وتقيم نظام حكم يعبر عن فلسفتها وأهدافها؛ فإن السلطة أيضا قد تختلق عقيدة سياسية تخدم وجودها وبقائها؛ كما يقول د. سبيلا: (ترتبط علاقة الايدولوجيا بالسلطة بالمسألة الحيوية والأساسية بالنسبة لكل سلطة سياسية وهي مسألة المشروعية، فالهم الأساسي لكل سلطة هو اكتساب المشروعية؛ لأن السلطة الراغبة في الدوام وفي البحث عن أساس مكين تشعر -بنوع من الحدس-  بأن السلطة القادرة على الاستمرار هي السلطة التي لا تقوم فقط على القوة والعنف وانتزاع الاعتراف، بل هي السلطة القادرة على جعل الذوات السياسية تنتج تلقائيًا مصادقتها عليها وقبولها بها بحيث لا تكون بمثابة مؤسسة خارجية قائمة على القهر والقسر بل على الرضا والموافقة، ولا نجد من عبّر عن مفارقة السلطة هاته أكثر من جان جاك روسو في (العقد الاجتماعي) حيث يقول: "ليس للأقوى ما يكفي من القوة ليكون دائمًا هو السيد إن لم يحول قوته إلى حق، وطاعته إلى واجب")([2]).

فكما تسعى (الأيديولوجيا) العقيدة السياسية للوصول إلى السلطة لتقيم مشروعها ونظامها الذي تؤمن به؛ فكذلك السلطة تحتاج إلى عقيدة سياسية تبرر مشروعية وجودها، وتضفي الشرعية على ممارساتها، سواء كانت عقيدة سياسية دينية أو أخلاقية أو قانونية.

وكل الحركات الإسلامية تؤمن إيمانا دينيا عميقا بما يلي:

1- أن الحاكمية لله وحده؛ فهو الرب والملك الذي له وحده حق التشريع والطاعة.

2- وأنه لا طاعة لمخلوق في غير طاعة الله ورسوله.

3- وأن الكتاب والسنة مصدر تشريع الأحكام كلها.

4- وأن الخلافة هي النظام السياسي في الإسلام.

5- وأن وحدة الأمة من أصول الإسلام وقواعده العظام.

6- وأن العدل والشورى أساسا النظام السياسي الإسلامي.

7- وأن تغيير المنكر واجب على الأمة.

8- وأن جهاد العدو المحتل فرض عين...إلخ.

9- وأن الربا يناقض أصول النظام السياسي والاقتصادي الإسلامي وهو حرب على الله ورسوله... إلخ.

10- وأن الإنسان خليفة لله في الأرض أكرمه الله وفضله على كل المخلوقات...إلخ.

فهذه كلها عقائد دينية تؤمن بها الحركات الإسلامية التقليدية، وتربي أفرادها عليها، إلا أن المشكلة ليست هنا، بل المشكلة تكمن في عدم تحول هذه العقائد الدينية لدى هذه الحركات إلى عقائد سياسية تحكم على الواقع من خلالها، وتحدد موقفها منه بناء على هذه الأصول الدينية؛ ولهذا تقف أكثر الحركات الإسلامية التقليدية موقفا متناقضا في حكمها على الواقع السياسي؟!

فأكثر الحركات لا ترى بطلان الأنظمة السياسية التي لا تعترف بالحاكمية والسيادة لله وحده، ولا ترى وجوب تغيير هذه الأنظمة، بل تصل حد التناقض حين تعترف بشرعية هذا الأنظمة، فصار إيمانها بأن الملك والحاكمية والتشريع لله وحده والطاعة لله وحده؛ أمرا دينيا غيبيا، ترجو ثوابه في الآخرة؛ دون أن تحكم على الواقع السياسي، أو تحدد منه موقفا، بل قد تعترف بشرعيته ومشروعيته، وليصبح النظام السياسي الذي لا يحكم بما أنزل الله؛ نظاما شرعيا تجب طاعته وجوبا دينيا، وطاعته من طاعة الله!

أي أن القضية الرئيسة المركزية في منظومة فكر الحركات الإسلامية، وهي الشريعة وحاكميتها؛ فقدت أي قيمة سياسية على أرض الواقع، ما دامت كل الأنظمة التي لا تحكم بالشريعة، أو لا تعترف بسيادتها المطلقة، أو تحكم بالقوانين الوضعية كلها أنظمة حكم شرعية، أو مشروعة، أو يحرم الخروج عليها وتغييرها ولو بالوسائل السلمية!

وكذلك لا يرى أكثر الحركات الإسلامية بطلان النظم السياسية التي تخالف نظام الخلافة في الإسلام، ويصل الموقف إلى حد التناقض حين تعترف بكل الأنظمة السياسية الملكية والعسكرية والجمهورية؛ دون أن تجد تلك الحركات تعارضا بين العقيدة الدينية التي توجب إقامة الخلافة كضرورة شرعية بإجماع الأمة، والموقف السياسي من تلك الأنظمة!

ولهذا لم تستطع هذه الحركات فهم لماذا جاء الإسلام بالخلافة كنظام سياسي؟ ولماذا لم يأت بالملك؟ ولم تع أن الخلافة بأصولها وفق الخطاب الراشدي؛ جاءت تعبيرا عن عقيدة الإسلام السياسية؛ ابتداء من كون الملك والربوبية والحاكمية لله وحده، وأن المؤمنين جميعا أخوة، وأمرهم وإمامتهم شورى بينهم...إلخ!

هذا في الوقت الذي لا يمكن للشيوعي أن يعترف بشرعية أي نظام آخر، ولا يرضى به، بل ويعمل جاهدا من أجل تغييره؛ ما دام لم تحكمه النظرية السياسية الشيوعية، وتسوس شئونه الطبقة العمالية، وتتحقق فيه العدالة الاجتماعية!

وكذا لا يمكن لليبرالي أن يعترف بشرعية أي نظام سياسي لا تتحقق فيه الحرية، وتسوس شئونه الأكثرية، وتحكمه الديمقراطية، وتحترم فيه التعددية السياسية!

وهذا لا يتناقض مع الواقعية السياسية لدى الشيوعي أو الليبرالي الذي قد يمارس العمل السياسي وفق النظام القائم دون أن يعترف بشرعيته!

وهذا بخلاف الحركات الإسلامية التي قد يبلغ الأمر بها أن تتبرع هي بإضفاء الشرعية على تلك الأنظمة؛ لتصبح هذه الحركات نفسها التي جاءت لتغيير الواقع، واستعادة الخلافة، واستئناف الحياة الإسلامية؛ هي أحد أهم أدوات ترسيخ الواقع الذي جاءت لتغييره، وقد تدخل في صراع مرير فيما بينها يستهلك طاقتها وجهدها حول شرعية وعدم شرعية النظم القائمة!

وبهذا تفقد ضرورة وجودها، إذ ما دامت اعترفت بشرعية النظام القائم، وأن له ولاية شرعية؛ فما هو الداعي لوجودها؟! وما هي القضية التي تناضل من أجلها؟ وما هي أدوات هذا النضال؟

فهذه الحركات التي قامت أساسا لاستعادة الخلافة كنظام سياسي إسلامي بعد سقوطها - وهي قضية سياسية - تتخلى من حيث لا تشعر عن المهمة الرئيسة التي قامت من أجلها؛ وذلك باعترافها بمشروعية النظم السياسية القائمة على أنقاض الخلافة، ولا تقتصر على تخليها عن الهدف التي قامت من أجله، بل تذهب أبعد من ذلك لتقف دون عودته وتحققه بالفعل المادي!

كما لا يجد أكثر الحركات الإسلامية التقليدية مشكلة في القطرية وتعدد الدول والأقطار في العالم الإسلامي، ولا يترتب على ذلك بطلان شرعيتها، في الوقت الذي تؤمن تلك الحركات إيمانا دينيا بوجوب الاعتصام وعدم التفرق؛ دون أن تلاحظ التناقض بين اعتقادها الديني وموقفها السياسي!

هذا في الوقت الذي لا تعترف الحركة القومية بهذا الواقع وتراه يتناقض مع عقيدتها السياسية التي تؤمن بوحدة الأمة العربية وضرورة توحيدها!

أي لم تستطع الحركات الإسلامية أن تفهم عقيدة التوحيد بشموليتها؛ بما في ذلك التوحيد السياسي الذي جاء به الإسلام على أنقاض الجاهلية وتشرذمها؛ ولهذا رفض أبو بكر الصديق انفراط عقد الوحدة الذي نظمه النبي ﷺ، فقاتل كل من خرج عن وحدة الأمة والدولة؛ إذ الإسلام لا يرضى الشرك وفرقته؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (إن الله يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا...) فربط بين توحيد الله، وتوحيد الأمة!

وكذا لا يضر أي نظام سياسي غياب الشورى والعدل في نظر أكثر الحركات الإسلامية التقليدية، فالأنظمة الاستبدادية والظالمة تبقى أنظمة شرعية يجب لها السمع والطاعة، حتى لو تخلت عن الشورى والعدل، وجاءت بالقوة والقهر، ومارست كل أشكال الظلم، وانتهت كل حقوق الإنسان الذي كرمه الله وفضله!

فالإيمان بأن العدل والشورى وحفظ كرامة الإنسان وحقوقه من أصول النظام السياسي الإسلامي هو عقيدة دينية، لا يترتب عليه عند هذه الحركات أي موقف سياسي من الأنظمة الاستبدادية الطاغوتية الإجرامية!

وكذا مقاومة الاحتلال وجهاده قد لا يكون واجبا في نظر كثير من الحركات الإسلامية، بل يسوغ التفاهم مع الاحتلال الأجنبي والعمل تحت ظله!

ومن يرى وجوب جهاده مطلقا قد لا يرى مشكلة في الأنظمة التي تعمل مع الاحتلال، ولا يفقدها التحالف معه شرعيتها، لدى فريق واسع من هذه الحركات، وإن كانت العقيدة الدينية تحكم بأن ذلك التحالف ردة وكفر؛ إلا أنه لا أثر لهذه العقيدة الدينية في الواقع السياسي، ولا في الحكم على من يتجاوزها بسبب غياب العقيدة السياسية (الأيديولوجيا)!

وكذا الموقف من الربا؛ فمع الإيمان الديني بأنه من المحرمات القطعية، وأنه حرب على الله ورسوله، وأن من استحله كفر، إلا إن هذه الحركات الإسلامية لا تحكم على الأنظمة القائمة عليه بحكم سياسي، ولا يسقط قيام اقتصاد الدول عليه مشروعية هذه الأنظمة في نظر هذه الحركات؟!!!

أي ليس لدى هذه الحركات أصلا تصور صحيح عن ماهية الدولة في الإسلام، وماهية نظام الحكم الإسلامي؛ ولهذا تعترف بشرعية كل هذه النظم التي يعج بها العالم العربي والإسلامي!

ومن لا يعترف بها، لا يرى مشروعية تغييرها، ومن يرى مشروعية تغييرها لا يمارس الجهاد السياسي لتحقيق هدفه، ومن يمارس جهادا سياسيا لا يعرف أدوات الصراع السياسي، ومن يعرف أدواته لا يحسن استخدامها؟!!

ومما يؤكد أبعاد الأزمة وعمقها حالة الشعور بالرضا والاطمئنان لدى قطاع واسع من الحركات ودعاتها، فهم مطمئنون على حفظ الله للإسلام والقرآن؛ لكونهم ينظرون إليه من زاوية العقيدة الدينية التي أكدت حفظ الله لهذا الدين كدين، ولم ينظروا إليه من العقيدة السياسية التي تعنى بإصلاح واقع المسلمين؛ كما في الحديث: (إذا تبايعتم بالعينة - الربا - ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى تعودوا إلى دينكم)!

إن هذا الرضا الزائف، والاطمئنان إلى حفظ الله للدين - الذي لا يقتضي بالضرورة حفظ الله للمسلمين إذا تخلو عن طاعته واتباع أحكام دينه - يفقد هذه الحركات الحرارة الروحية التي تبعث على التغيير للواقع السياسي وفق أحكام الدين، وهو الذي شل حركة هذه الجماعات التي جاء سيد قطب رحمه الله لينفخ فيها روح الثورة والتغيير في كتابه (معالم في الطريق) فكان الرد عليه (دعاة لا قضاة)!

لقد تم الفصل واقعيا بين الإسلام كدين وشرع سماوي، والإسلام كحكم وواقع يحقق الإصلاح في الأرض للفرد والمجتمع؛ فصارت الحركات تهتم بالدفاع عن الدين، وتتصوره ككيان مستقل تبكي من أجله، وتدافع عنه،؛دون أن تدرك بأنه لا وجود للدين إلا بالطاعة والحكم في الواقع السياسي؛ ولهذا أمر الله بالقتال{حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}!

شروط العقيدة السياسية:

ويشترط للعقيدة السياسية لتحقق التغيير المنشود أن تمتاز بأمور منها:

أولا : أن تكون لها خياراتها السياسية المحددة التي لا تقبل التأويل، وأن تكون حقائقها يقينية عند من يؤمن بها؛ فلا تقبل العقيدة السياسية التبديل والتغيير والتطوير، بل تمتاز بالثبوت والاستقرار، وهي عدل وحق عند المؤمنين بها؛ يجب تحقيقها ونصرتها، وما عداها باطل؛ يجب تغييره وإزالته، فهي لتكون عقيدة تقع في دائرة الحق والباطل، لا في دائرة الصواب والخطأ، وهذا بخلاف النظم السياسية وممارساتها، التي تجتهد في المقاربة من العقيدة السياسية، وهي اجتهاد في التطبيق؛ قد يقع فيه الخطأ، ومن هنا يوجد الخلاف بين النظم السياسية ذات العقيدة الواحدة؛ كما هي الشيوعية في روسيا اللينينية، والصين الماوية؛ بسبب الخلاف بين هذه النظم الحاكمة في المقاربة للعقيدة السياسية الماركسية.

وهذه اليقينية تتجلى في الخطاب القرآني بشكل جلي {إنه لحق مثلما أنكم تنطقون} {لحق اليقين}، {قل جاء الحق وزهق الباطل}.

ثانيا: كونها حدية قطعية، لا تقبل المساومة ولا المفاوضة، بل فقد الجزء يعادل فقد الكل، سواء بسواء؛ ولهذا نجد القرآن قطعي حدي في كل ما يدعو المؤمنين إليه؛ كما في قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}، {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}، {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب}.

وتتجلى الحدية في حديث: (إن هذا الدين لا يصلح إلا من أحاطه من جميع جوانبه)!

كما تتجلى الحدية في العقيدة السياسية في موقف أبي بكر الصديق يوم الردة؛ حين قال: (والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه، والله لأقاتلن بين من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال)!

وحين جاءه أهل الردة تائبين قال: (لا والله حتى يشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار)!

إنه يرفض رفضا قاطعا أن يتوبوا قبل أن يعترفوا بردتهم، وأن جهاده لهم كان حقا لا صوابا فقط، وأن موقفهم كان باطلا وكفرا وردة لا خطأ في الاجتهاد! حتى لا تختلط المفاهيم والقيم بعد ذلك!

إن أبا بكر الصديق - والصديقية لها دلالاتها اليقينية - لم يؤمن بأن الزكاة واجبة يجب قتال من منعها بحكم الله الديني فقط؛ دون ممارسة فعل سياسي، بل حدد موقفه من الواقع السياسي بناء على هذه العقيدة السياسية الإيمانية، فقاتل مانعي الزكاة دون تحرج أو تأثم أو تأويل!

ثالثا: أنها تستحق التضحية والفداء بكل ما يملك المؤمنون بها من نفس ومال وجهد؛ يصل إلى حد الموت في سبيلها؛ ولهذا شهد العالم ثورات شعبية شيوعية وليبرالية ضحت بالآلاف من أجل إقامة نظمها السياسية التي تعبر عن عقائدها السياسية!

وقد كان النبي ﷺ يبايع أصحابه على الجهاد في سبيل الله؛ كما قال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون}.

رابعا: الشمولية والإحكام؛ فيشترط لقوة النظم والنظريات السياسية قوة الأساس العقائدي الذي تقوم عليه، من حيث إحكامه وقدرته على تبرير مشروعه ونظامه السياسي الذي يبشر به، ومن حيث قدرته على نقض كل فكرة مضادة له، والإجابة عن كل سؤال يواجهه، ومن حيث شموليته لمعالجة كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والفكرية؛ دون وقوع تناقض واضطراب في نظرته وتحليله وحلوله للمشكلات، بين ما يؤمن به من عقيدة سياسية، وما يدعو إليه من مشروع سياسي؛ ولهذا كان القرآن يتنزل للرد على كل المخالفين {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا}، {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}؛ كما يؤكد شمولية هداياته وأحكامه لكل شئون الحياة {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}..الخ

خامسا: قيامها على أساس أخلاقي أو ديني، كالعدل والحق والإنسانية وإرادة الله ...إلخ.

ولهذا جاء القرآن ليؤكد بأن ما يدعو إليه هو حكم الله والعدل والهدى والخير والرحمة {ذلكم حكم الله يحكم بينكم}، {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، {قل أمر ربي بالقسط}، {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}، {هدى للمتقين}، {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما اتبعه إن كنتم صادقين}... إلخ.

سادسا: قدرتها على تحريك الجماهير خلفها، بتحقيقها أحلامهم نحو واقع أفضل؛ وهو ما بشّر به الخطاب القرآني {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض}، وقد كان النبي ﷺ يطلب من قريش أن يخلوا بينه وبين الناس!

فالشعوب هي التي تغير الواقع إذا آمنت بعقيدة وقضية ومشروع {إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} !

إن كل ما سبق ذكره عن العقيدة السياسية هو الغائب الذي يمثل أحد أبرز عناصر الضعف لدى الحركات الإسلامية التقليدية، بل هو السبب الرئيسي في عجز الحركات عن تغيير واقع مجتمعاتها، وهو مرتبط إلى حد كبير بالتخلف في الوعي السياسي والفكري الذي تعيشه هذه الحركات، حيث لم تستطع حتى الآن أن تدرك الفرق بين العقيدة الدينية التي تؤمن بها هذه الحركات، والعقيدة السياسية التي تفتقدها، وظنت أنه بالعقيدة الدينية وحدها تستطيع تغيير الواقع السياسي؟!

إن كل تلك العقائد الدينية لدى أكثر الحركات الإسلامية تفتقد للحدية والقطعية السياسية، الذي يحدد موقفها من الواقع السياسي، وهنا يسقط المشروع السياسي الإسلامي لدى هذه الحركات الإسلامية ما دامت كل الأنظمة التي لا تقيم وزنا لتلك العقائد الدينية أنظمة حكم شرعية يجب السمع والطاعة لها؛ لتبقى الحركات الإسلامية حركات دينية؛ بلا عقيدة سياسية، ولتحمل بذور فنائها في أحشائها كقوى سياسية؛ فهي تمارس السياسة بلا عقيدة ولا فكر، بل بشكل عبثي فوضوي ارتجالي، فقد تعارض الاستبداد وقد تتحالف معه، وقد تقاوم الاحتلال وقد تتفاهم معه، وقد تثور على الطاغوت الذي لا يحكم بما أنزل الله، وقد تواليه ليصبح ولي أمر تجب طاعته!

ومن هنا لا نتفاجأ بالمراجعات والانقلابات الفكرية التي تحصل في ساحة أكثر الحركات الإسلامية وقيادتها؛ فهي تعيش أزمة عميقة لم تعرف الحركات أسبابها بعد!

إن هناك بعض الحركات الإسلامية التي قد يكون لديها رؤية أو عقيدة سياسية، إلا أنها تعاني من الضعف، إما:

1- لكون عقيدتها السياسية غير شمولية، وغير محكمة البنيان الفكري؛ بل هي عقيدة جزئية قد تعالج الموقف من السلطة القائمة وقد تنزع عنها الشرعية؛ إلا أنها لا تطرح عقيدة سياسية تعالج كل قضايا المجتمع من منظورها العقائدي، بحيث تقنع الجماهير بأحقيتها، وبضرورتها، وبأهمية حلولها السياسية والاقتصادية، ومن ثم لا تستطيع أن تكون بديلا عن الواقع السياسي.

2- أو قد يكون لديها عقيدة سياسية شمولية؛ إلا أنها بلا عمل سياسي وبلا تضحية سياسية؛ فهي حركة دينية أو فكرية لا تمارس عملا سياسيا جديرا بإحداث التغيير.

3- أو تمارس عملها بلا قدرة على الانفتاح على الجماهير بكل قطاعاتها.

 

ثانيا: فقدان الأداة السياسية لتحقيق التغيير:

فالحركات الإسلامية هي في الأصل والواقع جماعات دينية، ترى رسالتها الرئيسية في ربط الإنسان بالله والاستعداد لليوم الآخر، وليست تنظيمات سياسية تسعى لتغير الواقع السياسي في الدنيا، ومن خلال أدوات تغيير هذا الواقع؛ كما فعل النبي ﷺ في مكة والمدينة حيث أقام الدولة النبوية وربط الإنسان والمجتمع والدولة بالله، وإنما تتعامل هذه الحركات مع السياسة كجزء من دعوتها العامة للإصلاح؛ ولهذا قد تتخلى عنه إذا اقتضت الظروف، والاقتصار على العمل الدعوي، أو قد تكون لديها رؤية سياسية إلا أنها لا تمارس نضالها وجهادها في دائرة العمل السياسي، بل في دائرة المجال الفكري أو الاجتماعي؛ فهي تقاتل في جبهة أخرى غير الجبهة التي يجب أن تقاتل عليها، فالعقائد السياسية والأفكار الإصلاحية ما لم تعبئ الجماهير خلفها، وما لم تحرك الشعوب معها لتغيير الواقع السياسي، فلن تستطيع تحقيق أهدافها، فإذا كانت الساحة الفكرية والاجتماعية والمجتمعية تعج وتضج بكل ألوان الطيف التي تتصارع وتتعايش كما يحلو لها، وهو ما لا يمكن معه عادة التأثير على الواقع السياسي؛ الذي قد يعزز من تلك الصراعات الفكرية والاجتماعية والمجتمعية؛ لينشغل بها الجميع عن السلطة، فإن الساحة السياسية تختلف تماما فهي لا يوجد فيها إلا طرف واحد مسيطر وهو السلطة، التي لا تسمح للقوى الإصلاحية بتجاوز خطوطها الحمراء؛ ولهذا فمن يملك العقيدة السياسية يجب أن يقف على الجبهة الصحيحة لتغيير الواقع السياسي!

كما قد يوجد بعض الحركات التي تناضل على الجبهة السياسية، إلا أنها تفتقد لأدوات التغيير، فهي لا تستطيع الوصول إلى الجماهير والتفاعل معها، وقيادتها نحو إحداث الإصلاح؛ ولهذا نجحت السلطة بمحاصرتها، وقطع الطريق عليها، لتظل حبيسة نطاق دوائر ضيقة كدائرة المتدينين، أو دائرة المفكرين، دون الوصول إلى كل قطاعات الشعب!

وقد تنبه ابن خلدون لهذه الأزمة عند رجال الدين المصلحين حين يخوضون فيما لا يحسنون، ويظنون أنهم يصلحون، أو يظنون أنهم يغيرون أوضاع الدول وواقعها السياسي بغير أدواته، إذ تغيير الواقع لا يتم إلا وفق سنن اجتماعية جارية؛ ومن ذلك: وجود العصبية التي تتم بها المغالبة والمدافعة؛ فكل حركة تغييرية لا تتخذ من تأسيس العصبية السياسية الدينية أو الفكرية وسيلة لإحداث التغيير وحصول التمكين الكلي أو الجزئي هي حركة عبثية فوضوية؛ كما قال ابن خلدون: (ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء فإن كثيرا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء، داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه والأمر بالمعروف، رجاء في الثواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتلثلثون بهم من الغوغاء والدهماء، ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يهلكون في هذا السبيل، وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها و يهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه، وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر و العصائب، وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء، لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة والله حكيم عليم)([3]).

وقد أصبحت الأحزاب السياسية اليوم البديل عن العصبيات القبيلة بعد ذوبان القبيلة في المجتمعات المعاصرة، فالأحزاب والتنظيمات اليوم أهم أدوات تغيير الواقع السياسي في الدول المعاصرة؛ سواء كانت أحزاب أو تنظيمات ثورية أو سلمية، وسواء كانت جبهات تحرير ضد الاستعمار الخارجي كحزب المؤتمر في الهند، وجبهة تحرير الجزائر، أو جبهات تحرر من الاستبداد كحركة التضامن في بولندا، وحزب المؤتمر في جنوب أفريقيا... إلخ.

ثالثا: غياب المشروع والنظام السياسي الذي يعبر عن تلك العقيدة الغائبة!

فإذا كانت العقيدة السياسية تمثل روح أي نظام سياسي، والتنظيم والحزب يمثل الوسيلة والأداة التي ينتقل بها من المعارضة إلى السلطة، فإن المشروع السياسي يمثل الجسد والبنيان الذي تحيا به هذه الروح، وهو الذي يعبر عنها، ويجليها في عالم الوجود، بعد أن كانت مبادئ وقيم في عالم الفكر، وقد عبرت الماركسية عن نفسها من خلال الاشتراكية في المجال الاقتصادي، والديمقراطية الشعبية وحكم الحزب الواحد في المجال السياسي؛ لأنها تنزع إلى تحقيق العدالة الاجتماعية؛ فكان النظام والمشروع السياسي معبرا عن العقيدة وأهدافها.

كما عبرت الليبرالية عن نفسها بالرأسمالية وحرية السوق في المجال الاقتصادي، والديمقراطية البرلمانية والتعددية والتداول السلمي بين الأحزاب في المجال السياسي؛ لأنها تنزع إلى تحقيق الحرية الإنسانية؛ فكان نظامها ومشروعها السياسي معبرا عنها وعن أهدافها.

فما هو المشروع والنظام السياسي الذي يعبر عن عقيدة الحركات الإسلامية السياسية على فرض وجود تلك العقيدة؟ وما مدى تعبير ذلك المشروع عن تلك العقيدة؟!

والجواب هو أنه لا يوجد لدى هذه الحركات ما يصدق عليه أنه مشروع نظام سياسي، يعبر عن العقيدة السياسية في الإسلام؟! بل أقصى ما يوجد هو رؤية ضبابية لا تستطيع إقناع الجماهير بمشروعيتها وضرورتها؟!

وقد عبر عن هذه الأزمة خالد محيي الدين عضو تنظيم الضباط الأحرار، حين شخص أزمة الحركة الإسلامية في مصر، وسبب الخلاف بعد الثورة بينها وبين الضباط الأحرار الذين كان بعضهم جزءا منها، وأن المشكلة تكمن في عدم معرفة ما الذي تريده هذه الحركة، فهل هي مع إعادة توزيع الثروة والأرض كما يتطلع إلى ذلك الفقراء الذين يمثلون غالبية الشعب المصري؟ أم ضد إعادة توزيع الأرض كما يريد البشوات ورجال الإقطاع؟

وتكمن الأزمة في طبيعة هذه الحركة وهو كونها حركة دينية تستقطب كل شرائح المجتمع روحيا ودينيا لتربطهم بالله واليوم الآخر، وهو ما لا يختلف فيه الأتباع عادة على اختلاف شرائحهم أثرياء كانوا أو فقراء؛ بخلاف الحركات السياسية التي تعبر عادة عن احتياجات شرائح المجتمع الدنيوية، وعن تطلعهم لواقع سياسي أفضل؛ وهو ما يجعل لكل طبقة اجتماعية توجهاتها، فقد كانت الشيوعية تعبر عن تطلعات الطبقة العمالية؛ فاستطاعت حشدهم خلفها لتغيير واقعهم السياسي؛ بما يحقق لهم حياة أفضل وأكثر عدالة اجتماعية، وهو ما حصل في روسيا والصين الإقطاعيتين؛ كما كانت الحركة الجمهورية في فرنسا تعبر عن تطلعات الطبقة البرجوازية وجماهير الشعب ضد الملكيين والنبلاء، نحو نظام حكم أكثر حرية سياسية!

وهذا بخلاف الحركة الإسلامية التي تدعو الجميع للانضمام إليها، دون طرح خيارات سياسية محددة، حتى لا ينفض عنها أتباعها؛ فهي تدعو إلى إسلام عام شمولي فضفاض، يرضي الجميع الغني والفقير والأمير والخفير!

وبسبب ذلك تنزع هذه الحركات للمحافظة على الواقع وتكريسه أكثر من نزوعها للتغيير؛ لكون قياداتها وداعميها عادة ما يكونون من الطبقة الممولة لأنشطتها، فيكون تعبيرها عن مصالح تلك الطبقة التي تستفيد من الضغط على النظام القائم لتحقيق بعض مكتسباتها؛ دون الدفع باتجاه التغيير الجذري؛ خوفا على ذهاب مصالحها!

ومن هنا يأتي شعار (أقيموا دولة الإسلام في نفوسكم تقم لكم في أرضكم)، وهو شعار طوباوي خيالي، هربت به الحركة الإسلامية من هزيمتها على أرض الواقع أمام كل القوى السياسية الأخرى التي نجحت في تحقيق مشاريعها السياسية على أرض الواقع، وإقامة دولها؛ فاستعاضت عنه بإقامة دولة الإسلام في النفوس، مع أن هذا الهدف لا يحتاج إلى جماعات كبرى لتحقيق هذا الهدف الفردي، فباستطاعة الإنسان المسلم أن يكون موحدا مؤمنا ولو كان في رأس جبل؛ وإنما المقصود إقامة الإسلام، وظهور الأحكام؛ بقيام الخلافة في الأرض؛ وهي فرض الوقت على الأمة بمجموعها، وهو ما لم تستطع الحركات الإسلامية كلها تحقيقه أو المقاربة لتحقيقه!

وهذا شبيه تماما بنظرية الأئمة الاثني عشر عند الشيعة الإمامية؛ حيث هرب الشيعة من واقعهم السياسي، حين لم يستطيعوا تغيير الواقع السياسي، ولم يستطيعوا تمكين هؤلاء الأئمة أن يكونوا خلفاء سياسيين على أرض الواقع؛ إلى إقامة عالم خيالي افتراضي، تم تنصيب هؤلاء الأئمة على الأمة بعقيدة دينية، وجعل لهم هالة من الإجلال تعوّض عن العقيدة السياسية، والواقع السياسي الذي حرموه!

ولهذا فالتجربة العربية الوحيدة اليوم في السودان لا يوجد ما يميزها عن أي تجربة نظام حكم في العالم العربي، ولا يوجد لديها ما يصدق عليه أنه مشروع سياسي يعبر عن عقيدة سياسية إسلامية!

وليس فيما تطرحه الحركة الإسلامية المعاصرة في مصر أو المغرب أو في اليمن أو الأردن أو الخليج أو موريتانيا ما يتميز عما تطرحه أي حركات إصلاحية غير إسلامية!

ولا يمكن قياس التجربة التركية اليوم مع نجاحها النسبي بالتجربة الإيرانية أيديولوجيا، ولا تعبر تلك التجربة عن عقيدة سياسية بقدر تعبيرها عن عقيدة دينية تنزع إلى المحافظة على الهوية الإسلامية للشعب التركي، وتحقيق الحياة الكريمة له، وهو ما نجحت فيه التجربة التركية بشكل قياسي، إلا إنها تفتقد للعقيدة السياسية الإسلامية التي تصوغ حياة المجتمع والدولة كلها بصياغة جديدة تعبر عن الإسلام عقيدة وشريعة وقيما أخلاقية ومشروعا حضاريا إنسانيا بديلا عن النظم الشيوعية الشمولية والنظم الرأسمالية الليبرالية!




([1]) قدم د حاكم المطيري هذه الورقة ونشرت قبل الثورة العربية 2011 م.

([2]) انظر الأيديولوجيا نحو نظرة تكاملية ص 580.

([3]) مقدمة ابن خلدون 1/199.


رابط مختصر
الرابط المختصر انقر هنا

الرسالة السابعة (العقيدة السياسية شروطها وضرورتها وخطورتها)

ترك تعليق
التعليقات

الرسالة السابعة (العقيدة السياسية شروطها وضرورتها وخطورتها)