الرسالة السادسة  (نظرات فقهية في السياسة الشرعية والمقاومة السلمية)

الرسالة السادسة (نظرات فقهية في السياسة الشرعية والمقاومة السلمية)

  • بواسطة مؤتمر الأمة --
  • الخميس 15 جمادى الثانية 1434 00:00 --
  • 0 تعليقات

الرسالة السادسة
(نظرات فقهية في السياسة الشرعية والمقاومة السلمية)([1])

 

نظرات فقهية في السياسة الشرعية

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على رسوله النبي الأمي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فهذه نظرات فقهية في السياسة الشرعية، تعالج بعض إشكالياتها في الثقافة السائدة، حيث تعطلت الأمة عن دورها في تغيير واقعها السياسي، بسبب كثير من الإشكالات الفكرية والثقافية، ومنها:

1. السياسة: إشكالية المفهوم والمصطلح:

فإشكالية الخلط بين مفهوم السياسة عند الفقهاء قديما، ومفهومها المعاصر؛ هي إحدى الإشكالات التي كان لها أسوأ الأثر على ثقافة الأمة السياسية اليوم، حيث إن السياسة عند الفقهاء قديما تعني ما تمارسه السلطة والولاة والقضاة من حزم وحسن تدبير؛ مما يحقق غايات الشرع ومقاصده في باب الولاية وسياسة الأمة؛ مما لم يرد فيه تشريع من كتاب ولا سنة؛ ولهذا يقولون (حكم الشرع) و(حكم السياسة)؛ وعليه فالشرع عندهم هو كل ما فيه حكم من الكتاب أو السنة، وأما السياسة فهي حسن تطبيق الشرع على أعدل وجه وأكمل صورة، ولهذا جاء في الطرق الحكمية للإمام ابن قيم الجوزية:

(قال الشافعي أي: من هو على مذهب الشافعي لا الإمام الشافعي نفسه- : لا سياسة إلا ما وافق الشرع... وقال ابن عقيل الحنبلي: السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به الوحي)!( [2])

فالشافعية لا يرون الحزم وحسن التدبير والتنفيذ يخرج عن دائرة المشروع، وليس للولاة ولا للقضاة أن يتجاوزوا في كل تصرفاتهم السياسية حكم الشارع، وهذا بناء على قاعدة عند المتكلمين والأصوليين منهم بأن الأصل في الأفعال الحظر حتى يرد حكم الشرع، وهي قاعدة مبنية على أصل عقائدي عند الأشاعرة وهو المنع من التحسين والتقبيح العقلي، وأن لا حسن ولا قبح قبل ورود الشرع!

وأما ابن عقيل الحنبلي والحنابلة؛ فيرون بأن السياسة هي كل تصرف وفعل يصدر عن السلطة من الخلفاء والأمراء والولاة والقضاة؛ يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح في أحوالهم وشئون حياتهم، وأبعد عن الفساد، وإن لم يرد فيه نص من الكتاب والسنة؛ لأن الأصل في الأفعال والتصرفات عندهم الحل والإباحة، إلى أن يرد دليل الحظر والمنع من الشرع!

فالسياسة عند الفقهاء هي ما يقابل الشرع، إلا إنها عند الشافعية يجب أن توافق أحكام الشرع، بينما عند الحنابلة يجب أن لا تخالف أحكام الشرع!

ولهذا قال ابن القيم: (ومن له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالاتها وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق - فالشريعة جاءت بغاية العدل، ولا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح - تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة؛ فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة؛ هي عين الشريعة؛ علمها من علمها وجهلها من جهلها...فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه، بأي طريق كان؛ فثم شرع الله ودينه؛ بل قد بيّن الله بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، ليست مخالفة له؛ بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبع لمصطلحكم وإنما هي عدل الله ورسوله).([3])

فتأمل قوله بأن السياسة لا تخالف الدين، أو أنها جزء من أجزائه، وفرع من فروعه؛ لأن كل ما جاء فيه نص وشرع وحكم؛ فهذا من الدين قطعا، وليس من السياسة، وأما السياسة فهي حسن إدارة شئون الأمة على الوجه المشروع، أو على الوجه غير الممنوع شرعا!

وهنا يظهر جليا لمه شاع في الثقافة الدينية قول (من السياسة ترك السياسة)؟

ولمه شاع بين الفقهاء وفي أوساطهم العلمية عدم الاهتمام كثيرا بالسياسة والشئون السياسية؟

والسبب في ذلك؛ لأنهم استصحبوا مفهوم السياسة في الفقه الإسلامي، وعند الفقهاء قديما وهو (الحزم وحسن التدبير لشئون الأمة)، وهذا أمر من اختصاص السلطة وحدها، ولا ينبغي اشتغال الجميع به، وليست السياسة هي الشريعة ليهتم الفقهاء والدعاة بها؛ فالواجب الاهتمام بالشريعة وأحكامها، دون السياسة وأقسامها!

بينما السياسة اليوم لها مفهوم آخر تماما؛ يختلف اختلافا جذريا عن مفهوم السياسة في الفقه الإسلامي؛ فهي لا تعني الحزم وحسن الإدارة والتنفيذ؛ بل تعني التشريع ذاته كفرد من أفراد موضوعها، أي أن ما يطلق عليه عند الفقهاء قديما (الشرع) و(الدين) أو(الكتاب والسنة)؛ صار جزءا من أجزاء موضوع السياسة بمفهومها المعاصر، بعد أن كانت السياسة عند الفقهاء جزءا من أجزاء الشرع، وفرعا من فروعه!

أي أن من يقول اليوم (لا سياسة في الدين) و(من السياسة ترك السياسة)؛ كأنه يقول تماما (لا دين في الدين) و(من الدين ترك الدين)!

أي صار كثير من المسلمين وعلمائهم أسرى ثقافة مفاهيم ومصطلحات لا وجود لها اليوم. فالسياسة بالمفهوم الفقهي القديم والتي أثرت سلبا على اهتمام كثير من المسلمين بشئون السياسية قديما؛ لم يعد لها وجود؛ بل السياسة التي يعزفون عنها اليوم ولا يهتمون بها؛ هي التي تشكل اليوم دينهم وشرائعهم وقوانينهم، بعد أن كانت السياسة قديما مجرد حسن تصرف السلطة في تطبيق الشريعة والكتاب والسنة!

ولهذا فما نسميه اليوم سياسة هو ما يسميه الفقهاء قديما (الأحكام السلطانية)، ولا يسمونها سياسة؛ لأنها أحكام شرعية، فيها نصوص من الكتاب والسنة؛ بخلاف السياسة عندهم قديما؛ فهي ما لا شرع فيه من تصرفات السلطة السياسية!

2. إشكالية الموضوع والمضمون:

وذلك بتحديد موضوع كل من الدين والسياسة، فإذا كانت إشكالية الخلط بين مفهوم السياسة عند الفقهاء قديما، والسياسة في المفهوم الحديث، قد أثّر سلبا على اهتمام الأمة بشئونها السياسية؛ ظنا منها بأن السياسة غير الشرع، وغير الدين، وأن الدين هو الأهم، فإذا سلم الشرع والدين، فلا يضر فساد السياسة وانحرافها، وحتى بلغ الحال أن خرج من الدعاة من يقول للأمة بأن احتلال القوى الاستعمارية للمنطقة لا خطر فيه على ديننا، وإنما خطورة ذلك فقط على دنيانا وسياسة دولنا، أما إسلامنا وشريعتنا؛ فلا خوف عليهما فالله حافظهما؟!

فإن هذه الإشكالية إنما تزول بعد فهم موضوع كل من الشرع والسياسة، ودائرة كل منهما، وإنما وقع الخلط من طائفتين: طائفة لا تعرف موضوع السياسة أصلا؛ ومن ثم رأت بأنه لا سياسة في الدين. وطائفة لا تعرف موضوع الدين ولا أحكامه؛ فرأت بأنه لا دين في السياسة، وأن الإسلام لم يشرع في شئون السياسة شيء، وأحسنهم حالا من يقول بأن الإسلام وضع مبادئ عامة فقط!

وكل هؤلاء إنما أتوا من إعراضهم عن هدايات الكتاب والسنة، وعدم علمهم بالواقع، وكيفية تنزيل أحكام الكتاب والسنة عليه، بعد اتساع الشقة بين واقع الأمة السياسي، وأحكام الشريعة المطهرة!

فإذا نظرنا في موضوع السياسة وتعريفها اليوم؛ فإذا هي كما يعرفها علماء الفن بأنها (علم الدولة)، أو (علم السلطة)، أو (علم الدولة وعلاقة السلطة بالمجتمع وأفراده وحدود صلاحياتها... إلخ).

أي أن موضوع السياسة اليوم ودائرة قضاياها التي تعالجها؛ هي:

- موضوع الدولة والمجتمع والفرد من حيث تصرف السلطة في شئونه.

- وتحديد السيادة وهي السلطة الأعلى في الدولة وحدود طاعتها وصلاحياتها.

- والسلطة التشريعية، وصلاحياتها في تشريع القوانين وسنها.

- والسلطة القضائية، وصلاحياتها في الحكم والفصل بين الناس بحسب القانون.

- والسلطة التنفيذية، وصلاحياتها في إدارة شئون الدولة والمجتمع وفرض القانون وتطبيقه.

- والعلاقة بين هذه السلطات والنظام العام للدولة، ودستورها الذي ينظم العلاقة بين هذه السلطات، ويحدد صلاحياتها بحسب طبيعة النظام وفلسفته... إلخ.

وكل هذه القضايا هي بعينها موضوع الدين ذاته! وهي قضايا الشريعة الإسلامية الرئيسة! فمنها ما هو:

من قضايا التوحيد وأصول الدين والإيمان، كموضوع السيادة المطلقة لله وكونه الرب ﴿رب العالمين﴾، ﴿رب الناس﴾، وكونه الملك ﴿الملك الحق﴾، و﴿ملك الناس﴾، وكونه الحاكم ﴿إن الحكم إلا لله﴾، والسيد الذي له وحده الطاعة المطلقة ﴿والله يحكم لا معقب لحكمه﴾، ﴿لا يسأل عما يفعل وهم يسألون﴾، وكما في الحديث (إنما السيد الله)!

وكونه هو الذي يشرع لعباده وحده لا شرك له ﴿ولا يشرك في حكمه أحدا﴾، ﴿ولا تشرك في حكمه أحدا﴾، وكون الطاعة له وحده ولرسوله لأنه الواسطة بينه وبين عباده ﴿وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول﴾، وكون الطاعة للسلطة منوطة بطاعتها لله ولرسوله ﴿وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول﴾ ... إلخ، وهذه كلها من مسائل الاعتقاد وأصول الدين في الإسلام.

وقد خصص لها الأئمة مباحث في كتب التوحيد والاعتقاد، وكذا مباحث في أصول الفقه كما قال الغزالي في (المستصفى في علم الأصول): (وفي البحث عن الحاكم يتبين أنه لا حكم إلا لله، وأنه لا حكم للرسول، ولا لمخلوق على مخلوق، بل كل ذلك حكم الله ووضعه).

وقال الآمدي في (الأحكام): (الأصل الأول في الحاكم: اعلم أنه لا حاكم إلا الله تعالى، ولا حكم إلا ما حكم به).

وقال سلطان العلماء العز بن عبد السلام في (قواعد الأحكام): (وتفرد الإله بالطاعة، وكذلك لا حكم إلا له).

ومن قضايا السياسة المعاصرة وموضوعاتها ما هو من باب أصول الأحكام وشرائع الإسلام كالإمامة والخلافة التي صنف لها الفقهاء كتب (الأحكام السلطانية)، ونصوا بأنه لا قيام للدين دون قيام الإمامة ووجود الخلافة، كما قال الماوردي: (الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين، وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع).([4])

وقال ابن حزم:(علمنا بضرورة العقل وبديهته أن قيام الناس بما أوجبه الله من الأحكام عليهم في الأموال والجنايات والدماء والنكاح والطلاق ومنع الظلم، وإنصاف المظلوم، وأخذ القصاص ممتنع غير ممكن أي دون إمام وهذا مشاهد في البلاد التي لا رئيس لها، فإنه لا يقام هناك حكم حق ولا حد، حتى ذهب الدين في أكثرها، فلا تصح إقامة الدين إلا بالإسناد إلى واحد أو أكثر).([5])

وقال القرطبي: (لا خلاف في وجوب ذلك - إقامة الخلافة - بين الأمة ولا بين الأئمة، وأجمع الصحابة على تقديم الصديق ..فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين).([6])

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولابد لهم عند الاجتماع من رأس؛ لأن الله أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر من أوجبه ما الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة).([7])

وقال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ (لا إسلام بلا جماعة، ولا جماعة بلا إمامة).([8])

ومن موضوعات السياسة ما هو من الفروض والواجبات الشرعية، كالقضاء، وفصل الخصومات، ودفع الظلم، والجهاد، وحماية البيضة، وإقامة الحقوق والحدود... إلخ.

ومنها ما هو من المندوبات الشرعية، كأكثر أعمال المجتمع المدني وفروض الكفايات، كالإحسان إلى الخلق، والعناية بشئون المجتمع، والإصلاح في الأرض ..الخ كما في الحديث الصحيح (الدين النصيحة أي: الاجتهاد والإخلاص وبذل الوسع والطاقة- لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).

أي أن كل موضوعات السياسة وهي (السلطة والمجتمع) هي موضوع الدين ذاته (الدين النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم) وموضوع الشريعة التي تنتظم أحكامها كل تصرفات الإنسان والمجتمع والدولة!

3.  خطاب الأنبياء السياسي لأممهم:

ومما يؤكد ما سبق بيانه من كون موضوع السياسة في المفهوم المعاصر هو موضوع الدين ذاته، أن القضية الرئيسة في خطاب الأنبياء لأممهم ومهمتهم هي الدعوة إلى الإصلاح في الأرض، وعدم الفساد، أي إصلاح أحوال مجتمعاتهم؛ كما قال شعيب لقومه: ﴿إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت﴾، وكما في قوله تعالى: ﴿ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها﴾؛ ولهذا نجد أن سورة الشعراء وحدها ذكرت كل المجالات السياسية التي جاء الأنبياء للإصلاح فيها؛ سواء على مستوى المجتمع أو السلطة والدولة؛ ومن ذلك:

بدأت السورة بقصة موسى وفرعون ﴿وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين. قوم فرعون ألا يتقون ... وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل﴾... إلخ.

فالطغيان السياسي ومواجهته، وتحرير بني إسرائيل من ظلم فرعون وملئه، هي الأبرز في قصة موسى؛ كما في قوله تعالى: ﴿اذهب إلى فرعون إنه طغى﴾، وفي قوله تعالى: ﴿إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين. ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون﴾.

ثم تحدثت السورة عن إبراهيم وقومه ﴿واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون...﴾ وهذا في مجال إصلاح عقائد المجتمعات وتصوراتها وسلوكياتها، وهو موضوع سياسي بحسب المفهوم المعاصر لعلم السياسة، ولم تذكر السورة ولا سور القرآن الأخرى عقوبة لقوم إبراهيم بخلاف الأمم الأخرى، إذ قضية الشرك وحده، أمره إلى الله يحاسب عليه يوم القيامة؛ بخلاف الظلم والطغيان والفساد في الأرض!

ثم ذكرت السورة قصة نوح وقومه وطغيانهم الاجتماعي، وظلم الملأ المستكبرين منهم للمستضعفين؛ كما في قولهم: ﴿أنؤمن لك واتبعك الأرذلون. قال وما علمي بما كانوا يعملون. إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون. وما أنا بطارد المؤمنين﴾!

ثم ذكرت السورة قصة هود وقومه عاد، وطغيانهم المادي، وبطشهم؛ كما قال تعالى: ﴿كذبت عاد المرسلين... أتبنون بكل ريع آية تعبثون. وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون. وإذا بطشتم بطشتم جبارين﴾!

ثم ذكرت السورة قصة النبي صالح وقومه ثمود، وفسادهم في الأرض، حيث خاطبهم بقوله: ﴿أتتركون فيما ههنا آمنين. في جنات وعيون. وزروع ونخل طلعها هضيم. وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين. فاتقوا الله وأطيعون. ولا تطيعوا أمر المسرفين. الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون﴾!

ولهذا وصف القرآن هذه الأمم (قوم فرعون وعاد وثمود) بالطغيان في سورة الفجر؛ فقال: ﴿ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد. وثمود الذين جابوا الصخر بالواد. وفرعون ذي الأوتاد. الذين طغوا في البلاد. فأكثروا فيها الفساد. فصب عليهم ربك سوط عذاب. إن ربك لبالمرصاد﴾!

فالطغيان والفساد في الأرض أبرز مظاهر أحوال تلك الأمم، وسبب عذابهم في الدنيا، بخلاف الشرك والكفر بالله؛ فقد توعد الله عليه في الآخرة.

ثم ذكرت السورة قوم النبي لوط وفسادهم وفجورهم وطغيانهم الأخلاقي؛ فقال تعالى: ﴿كذبت قوم لوط المرسلين... أتأتون الذكران من العالمين. وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون. قالوا لأن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين﴾!

ثم ذكرت السورة قصة النبي شعيب مع قومه، وطغيانهم الاقتصادي، ﴿كذب أصحاب الأيكة المرسلين. إذ قال لهم شعيب ألا تتقون. إني لكم رسول أمين... أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين. وزنوا بالقسطاس المستقيم. ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض المفسدين﴾!

فالسورة في تناولها لكل هذه القضايا والمشكلات التي تعاني منها المجتمعات الإنسانية على مر التاريخ؛ أوضح دليل على حقيقة الأديان السماوية وغاياتها، وهو تحقيق الإصلاح في الأرض للفرد والمجتمع، والمنع من الطغيان والظلم؛ سواء كان طغيانا سياسيا؛ كطغيان قوم فرعون، أو طغيانا اجتماعيا؛ كطغيان قوم نوح، أو طغيانا اقتصاديا؛ كطغيان قوم شعيب، أو طغيانا وانحرافا أخلاقيا سلوكيا؛ كطغيان قوم لوط، أو طغيانا ماديا وعسكريا؛ كطغيان قوم عاد، أو انحرافا عقائديا؛ كانحراف قوم إبراهيم.

وكل هذه القضايا هي موضوعات السياسة بالمفهوم المعاصر للسياسة؛ بل إن كل الأنبياء كانوا يدعون أممهم إلى شيء واحد رئيسي وهو ﴿فاتقوا الله وأطيعون﴾؛ كما قال تعالى عن الأنبياء جميعا: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله﴾، وموضوع الطاعة هو بعينه موضوع (السلطة والدولة)، فالأنبياء إنما يدعون أممهم لطاعتهم واتباع شرائعهم وهديهم، والدول والحكومات تقوم لتفرض على الشعوب طاعتها والخضوع لقوانينها؟!

 

4. السياسة بالمفهوم الشرعي:

ومن الشبه التي يثيرها المخالفون قولهم بأن الشارع لم يستخدم أصلا لفظة سياسة بمعناها المعروف اليوم، وإنما كلمة: ساس يسوس، إنما وردت بمعناها اللغوي؛ وهو من قولهم: ساس الفرس يسوسها فهو سائس!

وهذا الاعتراض أوضح دليل على عدم معرفة هؤلاء بالسنة ولغة الشارع، فقد جاءت كلمة سياسة بمعناها الاصطلاحي اليوم على لسان الشارع في الحديث الصحيح في مسلم: (إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي! فقالوا: فما يكون يا رسول الله؟ فقال: يكون خلفاء فيكثرون فأوفوا بيعة الأول فالأول)!

وقال عمر رضي الله عنه - كما في مصنف ابن أبي شيبة - (علمت والله متى تهلك العرب! إذا ساسهم من لم يصحب النبي ﷺ، فيعرف الورع، أو يدرك الجاهلية فيأخذ بأحلامهم)، وفي رواية: (حين يسوس أمورهم من لم يعالج الجاهلية، ولم يصحب النبي ﷺ)!

وجاء عن علي رضي الله عنه قوله لزياد بن أبيه حين ولاه على فارس فتشدد في ولايته (إنه ليس لي ولا لك أن نسوس الناس سياسة واحدة، أن نلين جميعا فنحرج الناس في المعصية، ولا أن نشتد جميعا فنحمل الناس على المهالك، ولكن تكون للشدة والغلظة، وأكون للين والرحمة والرأفة)!

ففي الحديث النبوي وفي هذه الآثار الراشدية أوضح الأدلة على بطلان تلك الشبهة، فقد ثبت إطلاق كلمة سياسة على إدارة شئون الأمة، وعلى السلطة حيث كان الأنبياء هم ملوك بني إسرائيل الذين يسوسون أمورهم، ويحكمون بينهم بشرائعهم السماوية، وبما أنه لا نبي بعد محمد ﷺ ليسوس أمته ويحكم فيها بالكتاب والسنة؛ فقد أخبرهم عن طبيعة النظام السياسي الإسلامي الذي سيقوم بعد عهد النبوة، وهو الخلافة، وهي نيابة عن النبي ﷺ ورئاسة عامة باختيار الأمة لسياسة شئون الأمة وفق أحكام الكتاب والسنة.

وقد استخدم الشارع، والخلفاء الراشدون بعده، لفظ سياسة في المدلول ذاته لهذه الكلمة في المفهوم المعاصر، وهو إدارة شئون الأمة، وموضوعها السلطة والحكم، وليس بمعناها الفقهي عند الفقهاء قديما، حيث قصروا كلمة سياسة على فرد من أفراد هذه الكلمة، وجزء من أجزائها؛ وهو الحزم وحسن التصرف في الولاية؛ بينما أطلقوا على موضوعها الأصلي (أحكام الإمامة) و(الأحكام السلطانية)!

أي أن السياسة بمعناها الفقهي اصطلاح عرفي حادث، أما السياسة بمعناها المعاصر فهي اصطلاح شرعي؛ حيث استعملها الشارع بمعنى السلطة والحكم!

وقد جاء في آيات كثيرة أن الله آتى الأنبياء الملك والحكم والنبوة؛ لتأكيد هذا الأصل العظيم؛ وهو أن الله إنما أرسل أنبياءه ليطيعهم الناس، ويحتكم إليهم من آمن بهم، وهذه الطاعة تقتضي الحكم بينهم بشرع الله ودينه، أي أن تكون لهم السلطة للحكم بين الناس بالعدل؛ كما قال تعالى: ﴿وما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين﴾، وقال تعالى في شأن أنبيائه: ﴿أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة﴾، وقال تعالى: ﴿ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة﴾، وقال: ﴿ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيهم لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله... وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا﴾.

وقال في شأن داود: ﴿وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة والنبوة﴾... إلخ.

وقال أيضا في شأن داود: ﴿يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله﴾.

فكل هذه الآيات تؤكد التلازم بين كل من:

أولا: الكتاب وهو الشرع المنزل من عند الله ليحكم به النبيون.

وثانيا: الملك وهو السلطة السياسية التي يسوس بها الأنبياء شئون أممهم كما في شأن داود وطالوت.

وثالثا: الحكم وهو القضاء والفصل بين الخلق بالحق الذي نزل به الكتاب!

والملك الوارد هنا في شأن طالوت وداود وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل هو الملك المشروع، وهو السلطة المأذون لهم بها من الله بالوحي والنبوة؛ كما قال مجاهد في تفسير قوله تعالى: ﴿والله يؤتي ملكه من يشاء﴾ قال: (الملك السلطان)!

وقال ابن جرير الطبري في تفسيره([9]) (الملك سلطان، والطاعة ملك)!

ولهذا أطلق القرآن على داود لفظ ﴿خليفة﴾ وحدد مهمته ﴿فاحكم بين الناس بالحق﴾!

فالخلافة هي السلطة للحكم بين الخلق بالحق!

أي أن القرآن ذكر في كل الآيات السابقة السلطات الثلاث وهي:

السلطة التشريعية: وتتمثل في الكتاب وهو الدستور والقانون.

السلطة التنفيذية: وتتمثل في الخلافة والملك أي السلطة.

السلطة القضائية: وتتمثل في الحكم بين الناس.

وكل ذلك يؤكد بطلان الشبه حول عدم تحدث القرآن عن أصول السياسة وأنه ليس له هدايات في هذا الباب!

 

(المقاومة السياسية السلمية رؤية شرعية)([10])

أصبحت قضية التغيير والإصلاح السياسي في العالم العربي اليوم القضية الرئيسة في ظل الانخناق السياسي والتخلف الشامل الذي تعيشه المنطقة العربية خاصةً، وكل الدراسات تؤكد أن العالم العربي سيشهد تحولات جذرية كبرى قد تعصف بمجتمعاته؛ بعد أن فشلت حكوماته فشلًا ذريعًا في قيادته نحو الإصلاح؛ وهو ما يقتضي طرح رؤًى جديدةً للإصلاح والتغيير تخفف من حدة هذا التحول القادم والحيلولة دون حدوث الاصطدام والعنف المسلح؛ للمحافظة على السلم الأهلي والإنجازات القائمة، وذلك بعد أن أثبتت التجارب أن استخدام القوة قد لا يحقق بالضرورة النتائج المطلوبة مع التأكيد على مشروعيتها في حد ذاتها إذا توفرت لها شروطها إلا أنه بالإمكان طرح أساليب جديدة قد تكون أكثر فاعليةً في تغيير الأنظمة الاستبدادية وإسقاطها دون اللجوء إلى العنف المسلح، ويمكن القول بأن الدعوة إلى الإصلاح في القرآن والسنة تقوم أساسًا على (التغيير السلمي) أو ما يطلق عليه (اللا عنف) وهذا ظاهر جلي في أكثر النصوص، ومن ذلك:

أولًا: تقرير قاعدة الدعوة إلى الإصلاح بالحكمة والموعظة والمجادلة؛ كما في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}([11]) قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (هذه الآية نزلت بمكة وقت الأمر بمهادنة قريش وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة، فهي محكمة في جهة العصاة من الموحدين ومنسوخة في حق الكافرين، وقد قيل: إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار فهي فيه محكمة).

والصحيح الراجح أنها محكمة غير منسوخة مع المسلمين وغير المسلمين في دار الإسلام وفي غير دار الإسلام، فهذا هو الأصل في الدعوة إلى الإصلاح؛ أنها بالحكمة واللين والرفق، وهذا لا يتعارض مع النصوص الأخرى التي توضع بمواضعها ويراعى فيها حيثياتها دون إلغاء للأصل، ولهذا. كانت دعوة الرسل كافةً دعوة للإصلاح السلمي؛ كما قال شعيب لقومه: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}([12]) قال القرطبي في تفسيره: (أي ما أريد إلا فعل الصلاح أن تصلحوا دنياكم بالعدل وآخرتكم بالعبادة ما استطعت؛ لأن الاستطاعة من شروط الفعل).

كما أمر الله نبيه موسى وأخاه هارون أن يدعوا فرعون مع طغيانه وجبروته باللين؛ {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}([13]).

ثانيًا: تقرير قاعدة عدم السيطرة على المخالف:

كما قال تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}([14])، وقال تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّار}([15])، قال ابن جرير الطبري في تفسير الآية: (لست عليهم بمسلط، ولا أنت بجبار تحملهم على ما تريد يقال: تسيطر فلان على قومه؛ إذا تسلط عليهم).

وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآيات منسوخة بآيات القتال، والصحيح والراجح أنها آيات محكمات تنفي عن النبي e  نفيًا قاطعًا أن يكون جبارًا كالملوك الجبابرة الذين يقهرون الناس بالقوة على طاعتهم واتباع أمرهم، وهذا الوصف باق له e  حتى بعد هجرته والإذن له بالجهاد لدفع عدوان الظالمين، فلم يكن ملكًا ولا جبارًا ولا مسيطرًا حتى بعد هجرته. بل أطاعه الأنصار بعقد البيعة في العقبة، وأطاعه أهل يثرب من المشركين واليهود فيها بعقد المعاهدة في صحيفة المدينة، فالحكم العام والأصل نفي التسلط والجبر على الآخرين، ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، والحكم بينهم بالقسط والعدل.

وإذا كان هذا هو الأصل في الدعوة إلى الله أنها دعوة للإصلاح السلمي حتى في مواجهة الطغاة كفرعون، فقد جاء القرآن والسنة بأحكام تفصيلية في كيفية مواجهة طغيان السلطة الجائرة بطرق أخرى غير استخدام القوة والعنف الذي جعلته الشريعة آخر الحلول.

ومن هذه الوسائل السلمية التي تفضي إلى تحقيق الإصلاح وإسقاط الأنظمة الجائرة وتغييرها:

1- التنديد بالظلم ورفضه وكشفه للناس وفضحه؛ كما قال تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}([16]).

وجاء في الحديث أيضا: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» ([17])، وقال أيضًا: «سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه؛ فقتله»([18])، وقال: «إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم! فقد تودع منها»([19]).

فالتصدي للظلم وللظالم وكشف جرائمه مطلوب شرعًا؛ وجوبًا أو استحبابًا. بل جعله الله في سورة الشورى -وهي مكية- من أبرز خصائص أهل الإيمان؛ كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}([20]) فالانتصار للنفس ودفع الظلم والتنديد به من أهم الأساليب لمواجهة الظلم والطغيان.

2- تحريم إعانة السلطة الجائرة وعصيان أوامرها ـ العصيان المدني ـ كما قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}([21])، وقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}([22])، وقال موسى: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}([23]).

وكما جاء في الحديث الصحيح: «لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة بالمعروف»([24])، وقال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»([25])؛ ليؤكد بذلك أن حق السلطة بالطاعة إنما هو منوط بما كان معروفًا أنه طاعة لله، وبهذا سبق الإسلام جميع القوانين في تقييد حق السلطة في الطاعة، وأنها ليست طاعةً مطلقةً، ولا طاعة لذات السلطة، وأن السلطة تفقد حق الطاعة عندما تأمر بالمنكر أو الظلم.

3- الدعوة إلى اعتزال السلطة الجائرة وعدم العمل لها أو معها، المقاومة السلبية والمقاطعة الكلية؛ كما قال تعالى: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ}([26]).

وقد نعى القرآن على من اتبعوا الجبابرة وأطاعوهم كما في قوله تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}([27]) والجبار في لغة العرب الملك والطاغية، واتباع أمرهم هو طاعتهم، وكما في قوله: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}([28]).

 كما جاء في الحديث الصحيح: «يهلك أمتي ـ أو الناس ـ هذا الحي من قريش، فلو أن الناس اعتزلوهم»، وفي رواية: «هلكة أمتي على يد غلمة سفهاء من قريش» وفي لفظ: «فساد أمتي على يد غلمة سفهاء من قريش»([29]) وفي الحديث الآخر أمر بالاعتزال زمن الفتن فقال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. فقلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت، وأنت كذلك»([30]).

فالدعوة النبوية إلى اعتزال الطغاة وعدم طاعتهم مطلقًا كافية في إسقاطهم؛ إذ قوة الطغاة إنما يستمدونها من طاعة الشعوب لهم، فإذا اعتزلتهم الأمة وهجرتهم؛ تحللت قوتهم وضعفت وسقطوا تلقائيًا.

4- المقاطعة الجزئية بعدم العمل في الوظائف التي تستقوي بها السلطة على الأمة؛ كالشرطة وجباة الأموال؛ حيث نهى النبي e  عن العمل في هذه الوظائف للظلمة وأئمة الجور؛ فقال: «فلا يكن لهم شرطيًا ولا عريفًا ولا جابيًا ولا خازنًا»([31])

ومثل الشرطة والجباية: القضاء. بل هو أشد، وقد عاب سفيان الثوري على شريك القاضي دخوله في القضاء، فاعتذر بأنه لا بد للناس من قاضٍ؛ فرد عليه الثوري منكرًا: ولا بد للناس من شرطي([32])؟! فشبه القضاء لهم كالعمل شرطيًا لهم!

فمتى ما قررت الأمة أو شعب من شعوبها إسقاط طاغية من الطغاة واتجهت إرادتها لتحقيق هذا الهدف فمقاطعة هذه الوظائف وتركها أمر واجب شرعًا؛ وهو كافٍ في شلل قوة الأنظمة الاستبدادية والضغط عليها للاستجابة لإرادة الأمة.

5- عدم الاعتراف بشرعية السلطة الجائرة؛ كما جاء في الحديث: «إنه سيلي أموركم بعدي رجال يُعرِّفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله تبارك وتعالى، فلا تعتلوا بربكم»([33]).

وكما قال النبي e : «ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، إن عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم. قالوا: يا رسول الله كيف نصنع؟ قال: كما صنع أصحاب عيسى بن مريم، نُشروا بالمناشير وحُملوا على الخشب، موتٌ في طاعة الله خير من حياةٍ في معصية الله» ([34]) وقال ابن عباس: قال النبي e: «سيكون أمراء تعرفون وتنكرون، فمن نابذهم نجا، ومن اعتزلهم سلم، ومن خالطهم هلك»([35]) وكما قال أبو بكر الصديق -الخليفة الراشد الأول-: (أيها الناس إني وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم).([36])

6- التصدي للسلطة الجائرة وتغيير منكرها ومنعها من الظلم والأخذ على يدها؛ كما قال e : «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه»([37])، وجاء عن أبي بكر عن النبي e أنه قال: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه عمهم الله بعقابه»([38])، وقال: «لتأخذن على يد الظالم، ولتأطِرنّه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم»([39]).

7- عدم دفع الزكاة والضرائب ونحوها لهم إذا كان يستقوي بها الطغاة على الأمة. وقد سئل الإمام مالك عن دفع الزكاة للإمام الظالم؛ فقال: (يفرقونها هم ولا يدفعونها إلى السلطان إذا كان لا يعدل فيها. قال: وقد أخبرتك في قول مالك: إذا كان الإمام يعدل لم يسع أحد أن يفرق شيئًا من الزكاة، ولكن يدفع ذلك إلى الإمام)([40]).

8- العمل على تغيير السلطة الجائرة وإسقاطها بالفعل بلا عنف -المقاومة الإيجابية- كما في الحديث الصحيح مرفوعًا: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا له في أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم تَخْلُفُ من بعدهم خُلُوفٌ ـ وفي رواية خوالف أمراء يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»([41])، وفي الصحيح أيضًا: «وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان»([42]).

فالمنازعة المشروعة للطغاة (باليد) والمجاهدة باليد تعني (بالقوة والفعل) ويدخل ضمنها كل فعل تقوم به الأمة لتغييرهم وإسقاطهم بالقوة، وليس بالضرورة بالعنف المسلح، فكل ما أزالهم عن سلطتهم وغير منكرهم فهو من التغيير باليد ومن المنازعة المشروعة. بل الواجبة كالمظاهرات والاعتصامات والإضرابات، إذ الشارع قد أذن للأمة بمنازعتهم الأمر حين يظهر كفرًا بواحًا.

والمقصود سلب السلطة منهم وتجريدهم منها، فكل فعل يحقق ذلك؛ فهو مشروع وليس بالضرورة أن يكون بالسلاح؛ وإن كان ذلك مشروعًا بشروطه إلا أنه لا يلجأ إلى الوسيلة الأشد مع تحقق زوال المنكر بالوسيلة الأخف.

ولا شك بأن إضراب الشعب عن العمل ومقاطعته له إذا كان موحدًا في إرادته وقيادته خاصةً في هذا العصر كفيل بتغيير النظام المستبد وإسقاطه أو على الأقل نزوله على رغبة الأمة بالإصلاح وهو المقصود.

 



([1]) بقلم أ. د. حاكم المطيري.

([2]) الطرق الحكمية 3 بتصرف يسير واختصار.

([3]) الطرق الحكمية 4 ـ 14 بتصرف يسير واختصار.

([4]) الأحكام السلطانية ص 5.

([5]) الفصل في الملل والنحل 4/87.

([6]) الجامع لأحكام القرآن 1/264.

([7]) السياسة الشرعية ص 176 177.

([8]) الرسائل النجدية 3/170.

[9]) ) 15/159

([10]) بقلم د حاكم المطيري 17 / 11 / 2009.

([11])[النحل:125].

([12]) [هود:88 ].

([13]) [طه:44:43 ].

([14]) [الغاشية:22 ].

([15]) [ق:45 ].

([16]) [النساء:148 ].

([17]) رواه أحمد 5/251 و 256، و3/19 و61، و4/315، وأبو داود، ح رقم (4344)، والترمذي، ح رقم (2175)، وابن ماجه، ح رقم (4011)، والنسائي (2/187) من طرق عن جماعة من الصحابة. وصححه الألباني في الصحيحة رقم (491).

([18]) رواه الحاكم 3/195 وقال: (صحيح الإسناد). وصححه الألباني في الصحيحة رقم (374).

([19]) رواه أحمد 2/163 و190، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/270) (رجاله رجال الصحيح).

([20]) [الشورى:42:39 ].

([21]) [هود:113 ].

([22]) [المائدة:2 ].

([23]) [القصص:17 ].

([24]) رواه البخاري ح رقم (7145)، ومسلم ح رقم (1840).

([25]) رواه أحمد 5/66 67 بإسناد صحيح.

([26]) [الشعراء:152:151 ].

([27]) [هود:59 ].

([28]) [هود:97].

([29]) صحيح البخاري ح 3604 و3605 و 7058، ومسلم ح 2917.

([30]) صحيح البخاري ح7084، ومسلم في صحيحه ح 1847 واللفظ له.

([31]) رواه الموصلي في المسند ح 1114، وعنه ابن حبان في صحيحه ح 4496، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (رجاله رجال الصحيح خلا عبد الرحمن وهو ثقة).

([32]) حلية الأولياء 7/47.

([33]) مسند أحمد 5/325 و329، والحاكم 3/356 357 من طرق مختصرًا وصححه. وانظر تهذيب تاريخ ابن عساكر 7/214 216 وصححه الألباني في الصحيحة رقم (592). ورواه ابن أبي شيبة في المصنف 7/526، وصححه الحاكم على شرط الشيخين 3/357 عن عبادة بلفظ: (ستكون عليكم أمراء يأمرونكم بما تعرفون ويعملون ما تنكرون، فليس لأولئك عليكم طاعة).

([34]) الطبراني في المعجم الكبير 20 /99، والمعجم الصغير ح 749، وقال في مجمع الزوائد (رجاله ثقات، ويزيد بن مرثد لم يسمع من معاذ).

([35]) رواه ابن أبي شيبة والطبراني وصححه الألباني كما في الجامع رقم (3661).

([36]) رواه محمد بن إسحاق في السيرة كما عند ابن هشام في 6/82 عن الزهري عن أنس رضي الله عنه. وعبد الرزاق في المصنف 16/336 عن معمر، وابن سعد في الطبقات 3/136 من طريق هشام بن عروة عن أبيه في قصة البيعة. وأبو عبيد في الأموال ص 12 من طريق هشام عن أبيه عروة بن الزبير، ومن طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر. وقال ابن كثير في البداية والنهاية: 6/306 عن إسناد محمد بن إسحاق: (وهذا إسناد صحيح). وهو كما قال.

([37]) رواه مسلم، ح رقم (49).

([38]) رواه أحمد 1/2و5 و7، وأبو داود ح رقم (4338)، والترمذي (2168) وقال: (حسن صحيح) و (3057)، وابن ماجه ح رقم (4005)، وصححه ابن حبان رقم (304).

([39]) رواه أبو داود، ح رقم (4336) و (4337)، والترمذي، ح رقم (3050)، وابن ماجه، ح رقم (4006)، وأحمد 1/391، من حديث ابن مسعود وحسنه الترمذي، وله شاهد من حديث أبي موسى الأشعري، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/269): (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح).

([40]) المدونة للإمام مالك 1/392.

([41]) مسلم في صحيحه ح 50واللفظ له، وأحمد في المسند 1/462 بإسناد صحيح مختصرا.

([42]) صحيح مسلم ح رقم (1709)، وصحيح البخاري رقم (7056).


رابط مختصر
الرابط المختصر انقر هنا

الرسالة السادسة (نظرات فقهية في السياسة الشرعية والمقاومة السلمية)

ترك تعليق
التعليقات

الرسالة السادسة (نظرات فقهية في السياسة الشرعية والمقاومة السلمية)